هل فكَّرتَ يوماً بكم يُمكن أن يكون عدد اللغات الموجودة في عالمنا؟ أي طفلٍ تسألهُ عن اللغات سيستطيع ذكرَ عددٍ لا يُستهَان به منها بسهولة، فمُعظم دول أوروبا وآسيا لها لغاتٌ خاصَّة بها، والكلّ يعلم (مثلاً) أن أهل روسيا يتحدثون اللغة الروسية، وأن الهند لغتها الهندية، وعلى الأرجح أنَّك لو حاولتَ الآن، سوف تستطيعُ تعداد أسماء عشرين أو ثلاثين لُغةً بسرعة، ولكنَّك ستعجزُ عن العدّ بعد ذلك. حيث أنَّ معظم الأشخاص البالغين، في اعتقادي، ليست لديهم أدنى فكرة عن توزّع اللغات في العالم، ولا يعرفُون عنها سوى القليل بالعادة.
والواقع أنَّ نصفَ سكان العالم – تقريباً – لا يتحدَّثُون سوى 15 لغة، ووحتى هذه اللغات الخمسة عشر منها، في الغالب، لغاتٌ لم تسمع بها بحياتك، مثل لغة الوُو التي يتحدَّثُها شعرات الملايين في الصين، أو اللغتين التيلوغية والبنجابية في الهند، أو اللغة الجاوية التي يتحدثها نصفُ سكان إندونيسيا. وبالعودة إلى سؤالنا، فإنَّ عدد اللغات الموجودة على الأرض الآن يُعادل أكثر من 7,000 لغة، ولكنّ مُعظمها على وشك الاختفاء إلى الأبد خلال السنوات القادمة.

تُوضّح هذه الخريطة توزّع المجموعات الأساسية للغات في العالم الحديث. اللغات الساميَّة (بما فيها العربية والعبرية) تظهرُ باللون البرتقالي.
ولادة اللغات وتنوّعها وفي النهاية اندثارها هي إحدى الظواهر الطبيعيَّة في حضارة الإنسان. على مرّ التاريخ، يُوجَد عددٌ لا يُمكن إحصاؤه من اللغات التي ظهرت وانقرضت بصُورة متتالية. والحقيقة أنَّ مُعظَم اللغات الموجودة في العالم الآن هي لغاتٌ جديدة لم تكُن موجودة لزمنٍ طويل.
فلو عُدتَ للوثائق التي كانت مكتوبةً بالإنكليزية أو الفرنسية قبل خمسمائة عامٍ ستجدُ أنها كانت لُغاتٍ مختلفة تماماً عن تلك التي تُستَعمل اليوم، وعلى سبيل المثال، يُحدّد قاموس أكسفورد الشهير تاريخ ميلاد اللغة الإنكليزية بحوالي سنة 1500م، وقبل ذلك كان أهل إنكلترا يتحدثون اللغة الإنكليزية الوسيطة، وهي لهجة قديمة من اللغة الإنكليزية كانت مُختلفةً جداً عن اللغة الحديثة. وقد لا يُحبّ العديدون الاعتراف بذلك، لكن العربية أيضاً (ورُغْم أنها من اللغات المحفوظة جيّداً إلى حدّ ما) قد تحوَّلت إلى لُغةٍ مُختلفةٍ عن تلك التي كان يتحدَّثُ بها العرب قبل ألف وخمسمائة عام، والدَّليلُ على ذلك هو أنَّ مُعظم الناطقين بالعربيَّة لا يستطيعُون قراءة كتاب عربيّ عُمره ألف سنة وفهم أكثر من بضعة سطور.
كيف تُولَد اللغات الجديدة؟
اللغات تُولَد بطبيعتها، وتندثرُ مع مرور الزمن بطبيعتها أيضاً، فإيقافُ هذه العملية مُستحيل. ولكن كيفيّة حُدوثها مثيرة جداً. ولادة اللغات تحصلُ نتيجة التراكُم التدريجي لاختلافات بسيطة في الكلام واللهجات بين الناس. لتتخيَّل ذلك، ضع في الحُسبان أنك لو (عشتَ في أي بلدٍ بالعالم لفترة طويلة) ستكونُ قادراً على تمييز المدينة أو المنطقة التي ينتمي إليها الناس بهذا البلد من لهجة حديثهم. فكلُّ مدينة وكل قرية، وأحياناً كل حيّ أيضاً، بكل مكانٍ بالعالم تكون لأهله طريقةٌ بالكلام خاصَّةٌ بهم تُميّزهم عن سائر الناس الآخرين. يستطيع أي سوريّ تمييز ابن مدينة حمص عن ابن حماة من لهجته، كما يستطيع المصري تمييز ابن الصعيد عن ابن الإسكندرية، وكذلك يستطيعُ العراقي والجزائري والمغربي.

وهذه الاختلافاتُ بين أهل المدن ليست موجودة بمحض الصّدفة، بل إنَّ لها أسباباً ثابتة. العاملُ الرئيسي في تنوّع اللهجات هو تطور اللّغة، حيث أنَّ لغة البشر لا يُمكن أن تبقى على حالها، بل هي في حالة تغيّر وتعدّل وتطور دائمة لا تتوقف. كمثال بسيط، من المُؤكَّد أن أي إنسان عربي توفّي قبل خمسين عاماً لم يكُن ليسمع بحياته بمُصطلح “الإنترنت” أو “الفيسبوك” أو “الإنستغرام”، بل من السَّهل أن لا يكونَ قد سمع باصطلاح الكمبيوتر/الحاسب ولا بالكثير من الأشياء الأخرى البديهيَّة لنا الآن. فهذه كُلّها مصطلحاتٌ جديدة قد دخلت على اللغة.
ونحنُ نعرف هذه المُصطلحات الآن لأننا نعيشُ في مجتمعٍ يتداولُها، لكن لو عشتَ بانعزالٍ عن الناس، فإن هذه المُصطلحات لن تنتقل لك. تخيَّل قرية معزولةً وسط الصحراء في جزيرة العرب القديمة. لو ظهر مصطلحٌ جديدٌ في هذه القرية، فإنَّ لا أحد من خارجها سيعرفُ به، إلا لو أتى وزار القرية وعاش بين أهلها فترةً ليتعرَّف على هذا المُصطَلح. ولأن التنقّل كان صعباً – إجمالاً – في البلاد القديمة، فإنَّ انتقال اللغة والاصطلاحات كان أمراً صعباً، وبالتالي وُلِدَت لكلّ منطقة كلمات وطريقة بالحديث خاصَّة بها، ولم يكُن لغير أهلها أن يتحدَّثُوا بنفس الطريقة. ومع تراكُم هذا التأثير، تولَّدت العديدُ من اللغات الجديدة.
وقد تعتقدُ أن المصطلحات الحديثة التي ظهرت بسبب الإنترنت هي حالة خاصَّة جاءت بفعل التطور التكنولوجي غير المسبوق للعالم، لكن الاصطلاحات الجديدة والغريبة كانت موجودةً دائماً في اللغات بكلّ مكانٍ بالعالم، بل وكانت تأتي المصطلحات الدَّخيلةُ على اللغة بطرقٍ شتى ربما كانت أشد قوة ممَّا هي الآن.
التحوّلات التاريخية
كانت من أهمّ العوامل في التأثير على اللغات القديمة الحروب وقيام واندثار الحضارات، فكلّ حضارةٍ تندثرُ كانت تخسرُ لغتها إلى الأبد، وحلّ حضارةٍ قويَّة تبزغُ كانت تفرضُ لغتها على جيرانها الضّعفاء. مثلاً، انتهى تداولُ اللغة البابلية في العراق بعد سُقوط الإمبراطورية البابلية، وحلَّت محلَّها لاحقاً السومرية والأكادية ولُغاتٌ أخرى، ثُمَّ وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية السَّاسانية فأصبحت تتحدَّثُ الفارسية. والعراقيُّون الآن يتحدثون العربيَّة بسبب الفُتوحات الإسلامية لا أكثر.
لو قام أحدٌ بإجراء دراسة عن الأصول اللغوية للكلمات المتداولة باللهجتين السورية واللبنانية، سيجدُ أنها تعودُ إلى ثلاثات لغاتٍ أساسية: هي العربية، والفرنسية، والتركية. وقد يُخمِّن أي شخصٍ مُطّلعٍ على التاريخ أن الكلمات الفرنسية جاءت بفعل الاستعمار الفرنسي الذي دام لرُبْع قرنٍ من سنة 1920 إلى 1946، وأما التركية فجاءت من الحُكم العثماني الذي تمتدُّ جذوره إلى مئات السّنين قبل ذلك. وبطبيعة الحال كان للحُكم الفرنسي والتركي تأثيرٌ ثقافي كبير على بلاد الشام، تجلَّى باستعارة العديد من كلمات من لغتيهما.

أصول الكلمات الإنكليزية المُتداولة الآن.
توزّع اللغات في العالم
لكن حُروب العالم القديمة أدَّت إلى انتشار أو اندثار اللغات الموجودة بالفِعْل، ولكن على أيّ أساسٍ وُجِدَت هذه اللغات في أماكنها أصلاً؟ في الحقيقة، يعودُ تنوّع لغات العالم وتطوّرها – بالنسبة الأعظم رُبّما – للطبيعة الجغرافية للأرض.
لنأخذ مثالاً الجزيرة العربيَّة. شبه جزيرة العرب هي أرضٌ ضخمة جداً، فمساحتُها تزيد على ثلاثة ملايين كيلومترٍ مُربَّع، ومع ذلك فإنَّ مُعظَم سكانها، حتى قبل مجيء الإسلام وانتشاره، كانوا يتحدَّثُون لهجاتٍ مُتفاوتة من لُغة واحدة: وهي العربيَّة. وتُعادل مساحة جزيرة العرب – تقريباً – مساحة دولة الهند الحديثة، ولكنَّ الهند، مُنذ القدم، تُوجَد فيها لغاتٌ كثيرةٌ جداً، وحتى الآن، لا يزالُ الهنود يتحدَّثُون أكثر من 150 لغة. وأخيراً لدينا جزيرة غينيا الجديدة، وهي جزيرة تقع بالقُرب من أستراليا ولا تزيدُ مساحتها عن ربع مساحة الهند، ومع ذلك فإنَّها تحتضنُ 1061 لغة، أي واحدةً من كلّ سبع لغاتٍ في عالمنا الآن!

رجلُ قبيلةٍ من جزيرة نيو غينيا، تمتدّ ورائه تلال وغابات جزيرته الشاسعة.
وأما الهند فإنَّ فيها الكثير من الغابات والمُستنقعات التي لا تجعلُ التنقّل فيها سهلاً جداً، ومعَ ذلك فإنَّ لسُكَّانها حضارةً قديمةً مُزدهرة، وقد كانت للهُنود صلاتٌ نجاريَّة وثيقةٌ بالعالم القديم، فكان التجار الهُنود يرتحلون إلى الصين وفارس وبلاد العرب وأوروبا مُحمِّلِين بضائعهم، وبالتالي كانوا على اتّصالٍ دائمٍ مع حضارات العالم، ولذلك فإنَّ التنوّع اللغوي لديهم مُعتدِل.
ولكن غينيا الجديدة، أخيراً، ليست سوى جزيرةٍ معزولةٍ في غربي المُحيط الهادئ، ولم تكُن معروفةً لمُعظم حضارات العالم القديم (إلا لبعض الممالك الإندونيسية) حتى وُصول المُستكشفين الأوروبيِّين إليها في سنة 1526. والقسم الداخليُّ من هذه الجزيرة وعرٌ جداً، فهوَّ عبارةٌ عن سلسلة من الجبال الوعرة المُغطَّاة بالأدغال الكثيفة، وبالتالي، فقد كان من السَّهلِ على سُكَّانها أن يعيشُون على مسافاتٍ قليلة نسبياً من بعضهم البعض دُون أن يعرفُوا بوُجود بعضهم ،أو دُون أن يرغبوا بالاحتكاك بغيرهم من المجموعات والقبائل. وفي الواقع، تُعتبر غينيا الجديدة واحدةً من أماكن معدودةٍ في العالم لا زالت تسكُنها قبائلُ بدائيَّة لم يسِق لها وأن أجرت أيَّ نوعٍ من التواصل مع الإنسان الحديث.

هذه البقاع السّوداء تُمثّل آخر المجموعات السُكَّانية في العالم التي لم يسبق لها وأن اتَّصلت مع الحضارة الحديثة أو عرفت بوُجودها. تقعُ جزيرة غينيا الجديدة في أقصى اليمين.
عندما يتوقَّفُ أحدٌ عن تعليم اللغات العريقة في بلده لأطفاله، ويموتُ آخرُ شخصٍ كان يتحدَّثُ تلك اللغة، فإنَّ اللغة تُصبحُ منقرضة. يُعتقد أن هذا هو المصير الذي ستُواجهه مُعظم اللغات المُتبقّية في عالمنا خلال القرن الحالي. ففي الوقت الحاضر، غالبيّة اللغات لا يتحدَّثُها سوى 10,000 إنسانٍ أو أقلّ، وأعدادُ متحدثيها تتناقصُ بصُورة مُتسارعة، لأنَّ مُعظم متحدثي هؤلاء اللغات هُم من السكان البدائيِّين لمناطق غير حضريَّة في أستراليا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، ومع اتّصالهم بالحضارة الحديثة أصبحوا يتحوَّلُون لاستعمال اللغات الغربيَّة المُتداولةً عوضاً عن لُغاتهم الأصليَّة.
تُشير التقديرات إلى أنَّ القرن الواحد والعشرين سيشهدُ انقراض ما بين 50 إلى 90% من كافّة اللغات الموجودة. في الحقيقة، جميعُ هذه اللغات تقريباً – بالفعل – لم يعُد الأطفال يتعلَّمُونها في أيّ مكانٍ بالعالم، فمُنذ سنواتٍ طويلةٍ أصبح الأطفال الأفارقة واللاتينيّون والأستراليّون لا يتعلَّمُون إلا باللغة الإنكليزية أو الإسبانية أو اللغات الأخرى المُنتشرة في بلادهم، وبالتالي، فبمُجرّد وفاة آخر الأشخاص كبار السنّ الذين لا زالوا يتحدَّثُون اللغات الأصلية لتلك المناطق، سوف تندثر هذه اللغات للأبد.
يُحاول العديد من علماء اللغات توعية السُكَّان الأصليِّين بمسألة اللغات المتدهورة وتشجيع أشخاصٍ جُددٍ على تعلّمها، لكن جُهودهم متواضعةٌ جداً لتستطيع كبحَ الكارثة. تدعو منظّمة اليونسكو بصُورة متزايدة (في السنوات الأخيرة خُصوصاً) إلى حماية لُغات العالم وإنقاذها بصفتها إرثاً ثقافياً، ولكن من المُرجَّح أن مُعظم اللغات المُتدَاولة ستندثرُ في السّنين القادمة، وستندثرُ معها ثقافة وتاريخ أصحابها للأبد.

ترقدُ في هذا القبر آخر إنسانة كانت تُجِيد تحدّث اللغة الكورنية (وهي لُغة من جنوب بريطانيا) في العالم، تُوفِّيَت سنة 1777، وبوفاتها انقرضت اللغة الكورنيَّة. يُحاول عُلماء اللغة البريطانيون الآن إحياء هذه اللغة من جديد.