هذه التدوينة هي لحظات متفرّقة من رحلتي الأخيرة إلى أوروبا (شهر أيلول/سبتمبر 2022)، أشاركها هنا على شكل مذكّرات، وهي ليست “قصة” مترابطة في جميع مواضعها.
كانت الغابة مظلمة وساكنةً جداً، فالساعة لم تتجاوز السادسة، والناس لم يصلوا بعد، ولهذا لم يساورني أي شك في أن الجلبة الكبيرة التي سمعتُها بين الأشجار أمامي هي زلَّة حيوان بري مُعْتَبر، وأن علينا (أنا وهو) نخوض نزالاً طويلاً يتطلَّب صبراً وجلداً عظيماً: فالفائز هو من يغادر مخبأه أخيراً، ومكافأة الفوز -بالنسبة لي- هي أن أُكحِّل عيني بمراقبة كائنٍ في أحضان الطبيعة، وأما بالنسبة له فهي أن يتابع حياته في سلام بعيداً عني. وقد ظننتُ أني قادرٌ على الفوز، فقد غادرتُ سريري الجميل في الصباح الباكر وقدتُ دراجة صديقي في طقس فرنسا البارد طمعاً بهذه اللحظة العظيمة، وقد قضيتُ سنين طفولتي أمام وثائقيات ناشيونال جيوغرافيك وأنا أتعطَّش شوقاً لأعيشها، خصوصاً حينما كنتُ أُحوِّل ناظري من مشاهد الطبيعة الخلاّبة على الشاشة إلى نافذتي المُطلِّة على صحراء الجزيرة العربية القاحلة. لكن تبيَّن لي مع الوقت أن النزال أشدُّ مما تصورت. إذ إن هذا الكائن -أياً ما يكون- لا يمنعه عمل ولا شاغل من أن ينتظرني اليوم بطوله لأبتعد عن طريقه، وأما أنا فإني كسائر الناس لا أحتمل الوقوف بلا حراك طول اليوم. والشمس ترتفع في الأفق، والأعمال والاجتماعات تنتظرني عمَّا قريب.
بداية الرحلة: ضغوطات الحديث على المنصّة
السبب “الأصلي” وراء رحلتي إلى أوروبا هو عملي في تنظيم “قمّة ويكيميديا”، وهو مؤتمر سنوي (سابقاً) في برلين يختصُّ بوضع استراتيجية لويكيميديا، وهي الحركة التي صنعت “ويكيبيديا”. وكنتُ قد شاركتُ في هذا المؤتمر مرتين قبل جائحة الكورونا، لكني كنتُ مشاركاً بالحضور والاستماع، وأما في هذه المرة فقد جئتُ ضمن وظيفتي كـ”مدير للمعرفة” وكمنظم للحدث، واختلفت -لهذا السبب- تجربتي تماماً.
كان التحضير للمؤتمر بالتحديات وجلسات العمل التي استمرَّت في كثير من الأحيان إلى منتصف الليل، لكن أمراً واحداً شغل بالي وحطَّم أعصابي خلال فترة التحضير هذه، وهو الفقرات التي وُضِعَ اسمي فيها ضمن جدول المؤتمر مع أسماء المتحدثين. تقول دراسة مشهورة من سنة 1973 (مصدر حديث) أن التحدث أمام الجمهور هو أكبر مخاوف الإنسان، وأن الموت ثانيها؛ أي أن “الناس يُفضِّلون الموت على الحديث أمام الجمهور”، ولن أزعم أن هذه الدراسة تُمثِّلني مئة بالمئة، لكني أتفهُّم نتائجها جيداً.
يسعدني أني اجتزتُ تجربة الحديث أمام 300 إنسان وما زلتُ على قيد الحياة (لا أعرف لو كانت هذه النتيجة تتعارضُ مع مزاعم دراسة سنة 1973)، بل وحصلتُ على صورة جميلة مرفقةٍ هنا و”مفعمةٍ بالذكاء” كما وصفها زميلي، ولو أني كنتُ أُفضِّل التنازل عن الصورة وعن فرصة الخطابة لو تسنَّى لي الاختيار.
إضافةً إلى هذا، حصلنا على نتيجة جميلة من المؤتمر هي أول قاعدة بيانات حقيقية تُوثِّق نشاطات ويكيميديا في أنحاء العالم، والتي كانت مساهمتي الرئيسية في هذا العمل، وقد كنتُ أعتزم تحويل هذه البيانات إلى خريطة مرئية وتفاعلية مبهرة، لكن للأسف فالأمور لا تسير دوماً كما يُخطِّط لها الإنسان في آخر 24 ساعة قبل مؤتمر كبير.
عميل الإف بي آي
بلا شك، كانت للرحلة مزايا أخرى، من أهمها الرفقة الممتازة مع الويكيبيديين العرب الذين لم ألتقِ بهم منذ سنوات (أو لم ألتقِ بهم قط في بعض الحالات)، ومنهم الأصدقاء “أناس” (المغرب) و”رافان” (العراق) و”رضا” (الجزائر) و”فرح” (فلسطين) و”نانور” (سوريا)، وقد ناقشنا معاً موضوع “المركز الإقليمي العربي” الذي ما زال موضع مباحثات -ومشاحنات- منذ سنين.
بعد رحيل حضور المؤتمر، بقيتُ مع فريقي ليوم واحد في برلين لعقد “جلسة مراجعة” نُوثِّق فيها ما جرى في المؤتمر بما فيه الأخطاء والتحسينات المستقبلية. وكنتُ أنوي متابعة رحلتي للاستجمام في فرنسا بعد هذه الجلسة الأخيرة، ولكني لم أعثر على حجز للطائرة إلا بعدها بيومين، ولذلك كنتُ أنا وزميلي “كورنيليوس” آخر الباقين في المدينة بعد رحيل زملائنا، وكنا آخر من غادرنا مكتب العمل في “ويكيميديا ألمانيا”، وهي -دوماً- لحظة شديدة الكآبة بالنسبة لي، إذ تحوَّلت فيها غرفة عملنا التي لم تهدأ لمدة أسبوع إلى قاعة مهجورة.
غادرتُ هذا المكان الكئيب إلى فندقي، وهو “نُزُل شباب” (هوستل) يقع قرب محطة برلين الرئيسية. وقد يتبادر إلى ذهنك من كلمة “نزل الشباب” إيحاءٌ بعيدٌ عن حقيقة هذا المكان، فهو بناءٌ سكني هائل له خمسة طوابق ومئات الغرف، ولا يكاد يختلف في ترتيبه عن أي فندق عملاق لولا أنك تتقاسم غرفه مع عددٍ كبيرٍ من الغرباء. وحظّك في هؤلاء الغرباء الذين يتشاطرون معك غرفة النوم هو العامل الأهمّ في سعادتك أو تعاستك خلال إقامتك معهم، وأخشى أن حظي لم يكن الأفضل في هذه المرة.
حينما وصلتُ للغرفة وجدتُ فيها شاباً بنغالياً يبدو عليه وكأنه في آخر العشرينات. عرفتُ من الحديث إليه أنه انتقل إلى برلين حديثاً من مدينة في غرب ألمانيا (اسمه “دوسلدورف”) ليعمل في شركة اتصالات، وعرف هو من الحديث إليَّ أني أعمل مع “ويكيبيديا”، وليتني لم أُفْصِحْ له بكل سذاجة عن هذه المعلومة. فما إن سمع الشاب بأن لي علاقة بـ”ويكيبيديا” حتى انقلبت ملامح وجهه إلى الجدية الفائقة، وأسرَّ لي بأنه على اطلاع خاصٍّ بوقائع فائقة السرية تدور رحاها في مدينة “دوسلدورف”، وأنه سيرسل لي ملفَّ هذه الوقائع المشبوهة في أقرب وقت بقنوات مُشفَّرة، إذ إن محقّقه الخاصَّ ما زال منكباً بالعمل على الملف.
أثناء الليلتين اللتين قضيتهما في النُّزُل، اضطررتُ للإنصات إلى ساعاتٍ متوالية حدَّثنا فيها هذا الشاب عن معلوماته الخطيرة عمَّا يدور في أقبية الجمهورية الاتحادية الألمانية من مؤامرات خطيرة (لكن دون أن يُفْصِحَ عن أي معلومة قيّمة عن هذه المؤامرات لأنها كلها “معلومات فائقة السرية”). وقد بذلتُ جهدي في تجاهل هَذْرِه الكثير بأن أضع شاشة حاسوبي بيني وبينه، غير أن فتاتين بريطانيتين فائقتي الذكاء بذلتا جهداً معاكساً في استدرار حديثه، وتسمَّرتا أمامه لساعاتٍ وعيونهما مليئةٌ بالدهشة والانبهار وقد ردَّدتا: “يا لك من شخص واسع المعرفة والاطلاع! أأنتَ عميلٌ للإف بي آي؟”.
متحف الديناصورات
أعطيتُ نفسي استراحةً من هذه الصحبة في يومي الأخير ببرلين بزيارة “متحف التاريخ الطبيعي”، والذي يزخر بمعروضاتٍ مبهرة. يتوسَّط القاعة الرئيسية للمتحف هيكل عظمي لبراكيوصور ارتفاعه 5 أمتار، وفيه هيكل مكتملٌ لتيرانوصور (ريكس) حجم سنِّه بحجم قبضة يدي، كما أن فيه نماذج بلاستيكية مُكبَّرة حوالي 100 مرة لأنواع عديدة من الحشرات تظهر فيها أدقّ تفاصيل أجسامها، ومن أغرب ما رأيته فيه “غرفة باردة” فيها مئات من الرفوف تصطفُّ عليها عشرات آلاف الأوعية الزجاجية المملوءة بالزيت وبعيّنات من شتى أنواع الأسماك، وهي إحدى طرق الحفظ العلمي.
جامعة تصنع الطائرات
سافرتُ من برلين بالطائرة إلى مدينة “بايون” في جنوب فرنسا لزيارة صديقي “ميشيل بكني”، أحد كبار المحرّرين والإداريين في موسوعة ويكيبيديا. وقد حضَّر لي “مشيل” جدولاً حافلاً يشغلني أثناء إقامتي في مدينته، يتضمن زيارة رسمية للجامعة التي يُدرِّس فيها (وهي “معهد التقنيات الصناعية المُتقدِّمة” أو ESTIA) لمناقشة تعاونات ويكيبيدية معها، وتتضمَّن الزيارة محاضرة ألقيها على أساتذة الجامعة وطلبتها.
قد تظنُّ -خطأً بالطبع- أني اعتدتُ على الخطابة أمام الجمهور بعد اعتلاء منصة المؤتمر في برلين ثلاث مرات خلال ثلاثة أيام، لكن إلقاء محاضرة أكاديمية (عن “التحديات اللغوية في ترجمة المعرفة الحرّة”) أمام جمهور من الأساتذة وفي جامعة حقيقية هو تجربة جديدة بالنسبة لي، خصوصاً وأني اضطررتُ للتحضير لهذه المحاضرة وأنا أركب حافلات وطائرات وقطارات في طريقي من برلين إلى “بايون”، إذ لم تكن عندي لحظة فراغٍ قبل ذلك للعمل عليها.
النهاية سعيدة، فقد اجتزتُ التجربة مرة أخرى. ضمَّ جمهور محاضرتي حوالي 40-50 شخصاً، من بينهم ويكيبيديّون معروفون من “ويكيميديا الباسك” (إذ إن هذه الجامعة تتبع المنطقة المتحدّثة باللغة الباسكية)، وتبعت المحاضرة جلسة نقاشية مغلقة مع أساتذة مخضرمين في الجامعة لمناقشة تقاطعات عملهم مع عمل “ويكيميديا”.
وكانت مكافئتي على هذا الجهد العظيم أن أحصل على جولة مع زملائي الويكيبيديين في مرافق الجامعة، فشعرتُ وكأني في وفدٍ من السياسيِّين وقد وقف أمامي أساتذة وتقنيّون يشرحون لي وظائف ومهام آلات لا أعرف عنها شيئاً، ولو أني بذلتُ جهدي في طرح عشرات الأسئلة الفضولية والتظاهر بأني فهمتُ إجاباتها الطويلة. وكانت الآلات مبهرة بحقّ حتى بالنسبة لجاهلٍ مثلي، فمنها طابعات ثلاثية الأبعاد بأحجامٍ هائلة، ومختبرات مخصَّصة لصنع الروبوتات، بل ومصانع تُصنِّع مواداً وقطعاً خاصة تستخدم في طائرات إيربص وفي مكوكات الفضاء!
ركوب الدراجة
لطالما تأملَّتُ بغيرة سائقي الدراجات في عشرات المدن والمتنزهات الأوروبية التي قصدتها وهم يتنقلون بكلّ خفة وسرعة ويُسْر، وتساءلتُ عن الحيلة السحرية التي يجيدون بها التوازن على عجلين مثل بهلوانات السِّرك وهم يتنقلّون بهذه المراكب العجيبة في أنحاء المعمورة. وقد حاولتُ مراراً أن أكشف النقاب عن سرِّهم، لكن كل محاولاتي كانت تنتهي بسقوطي عن الدراجة قبل أن آخذ نفسي الأول عليها. ولكن كل شيء تغير في هذه الرحلة.
التقيتُ في “بايون” كذلك بساندرا، وهي منسقة المشاريع في ويكيميديا بلاد الشام، وقد قرّرت -لسبب ما- أن تكشف لي عن السرِّ الذي يحفظه قائدو الدراجات بينهم منذ مئات السنين، ولم أُصدِّق الأمر حينما ركبتُ الدراجة وسرتُ عليها لدقيقة كاملة دون أن أكسب كدمةً جديدة في مكانٍ من جسدي. وكانت رحلتي الأولى على الدراجة إلى الساحة الرئيسية في “بايون”، والتي استقلَّيتُ منها الحافلة مع “ساندرا” إلى نهر خلاّب أملاً بان نجول به على متن زوارق “الكاياك”.
للأسف، كان محل “الكاياك” مهجوراً بسبب نهاية موسم ركوب الزوارق (كان ذلك في 19 سبتمبر)، وكانت هذه بداية حظٍّ تعيسٍ لم أفلت منه طوال الرحلة حيال الزوارق والأنهار والبحار. وأنا واثقٌ أني لم أكسر أي مرآةٍ خلال رحلتي هذه ولا في حياتي كلّها، لكن يبدو أني اقتربتُ دون انتباه ولا احتراز من قطة أو بومة سوداء ملأتها الأحقاد.
البحث عن الحياة البرية
اصطحبني “ميشيل” في نهاية الأسبوع إلى متنزّه يبعد عن منزله ربع ساعة سيراً على الأقدام، وكان أجمل من أكبر “الغابات” الباقية في الأردن. وجدنا عند مدخل المتنزه لافتة فيها صور الحيوانات البرية الكثيرة التي تسكنُ المتنزه، وقد أخذتُ على عاتقي وقتها مهمة استكشاف هذا المتنزه ورؤية حيوانات بجدية بالغة، إذ إني متعلِّقٌ منذ طفولتي بالطبيعة. ولذا خرجتُ في اليوم التالي تمام الساعة السادسة صباحاً على الدراجة إلى المتنزّه لأكتشف كائناته، فأفضل أوقات مراقبة الحيوانات هي ساعات الصباح الباكر.
طريق المتنزّه هو عبارةٌ عن جسر خشبي عالٍ فوق نهر، وقد غطَّى صفحة مياه النهر في الصباح ضبابٌ كثيف وكأنه غابة مطيرة أو منغروفية. أخذتُ خُطَايَ بحذرٍ فوق الأرض الترابية متجنِّباً الأغصان، وسرتُ بهدوء النينجا -حسبما اعتقدتُ- بين أشجار الغابة المظلمة، ولم أكد أسير مئة خطوة حتى سمعتُ جلبة هائلةً في الأشجار أمامي لا يمكن أن يُسبِّبها إلا حيوان كبير. وتجمَّدتُ في مكاني كالصَّنم، وتجمَّد الكائن الدنيء الذي خلف الأشجار بالمثل، وبدأت منافسة الصبر العظيمة بيننا والتي وردت أعلاه. ومضت دقيقة فدقيقتان فخمس، وبدأ يتوضح لي أن خصمي أكثر صبراً مني بكثير.
لم أكن أنوي الاستسلام بعد، لكني ضقتُ ذرعاً بوضعية العقاب التي وقفتُ فيها طويلاً، ونويتُ أن أتناول هاتفي لأمضي معه لحظات الانتظار المملّة، لكن ما إن بدرت عني تلك الحركة البسيطة حتى تحرَّك الكائن الجبان وتحرَّكت معه مجموعة من الشجيرات التي دفعها جسمه، ولمحتُ في تلك اللحظة فروه الأسود القاتم خلف الأشجار، والذي كان على ارتفاعٍ يرنو من ارتفاع خصر الإنسان. واختفى الكائن الذي انتظرتُ لقاءه طويلاً في الغابة بلا رجعة، لكن بناءً على حجمه ولونه وعلى الأصوات التي سمعتُها وأنا أتابع سيري؛ فعندي ثقة كبيرة بأنه خنزير بري.
عدتُ للغابة ثلاث مرات لرغبتي الشديدة بأن أقابل الخنازير البرية عن قرب، لكن الواضح هو أن الرغبة لم تكن متبادلة. وقد رأيتُ في هذه الجولات -للحظات خاطفة- سناجب عديدة وقندساً كبيراً وأيَّلْيْن أحمرَيْن ساحِرَيْن، ولو أن كل محاولاتي في تصوير هذه الكائنات باءت بالفشل الذريع.
قصر البابوات
أمضيتُ عشرة أيام في بيت ميشيل قضيتُ معظمها في إنهاء قائمة المهام المزدحمة من مؤتمر برلين، والباقي في مباحثات طويلة معه عن أفضلية الحياة الأكاديمية على المهنية وما شابه. ذهبتُ في اليوم الأخير إلى شاطئ “بايون” (الذي لم أتفرّغ لرؤيته إلا تلك المنارة)، وصعدتُ بناءً على نصيحة ميشيل مئتي درجة لأعتلي قمة منارة المدينة التاريخية، فاكتشفتُ عند بلوغ القمة أن المنارة عبارةٌ عن منصّة عرضها خطوة واحدة، والمشهد منها (على ارتفاع نحو مئة متر عن المحيط) يقصفُ الأرجل.
غادرتُ “بايون” في الصباح الباكر لأبدأ عطلتي في جنوب فرنسا بعد إنهاء المهام الموكلة إليَّ، وقضيتُ طريقي في القطار أكتبُ صفحاتٍ من روايتي وأشاهد فلم Once Upon a Time in the West (فلم كلاسيكي ورديء بعض الشيء عن الغرب الأمريكي). كانت وجهتي الرئيسية الأولى هي “أفينيون”، والتي نزلتُ فيها لمدة ساعتين فقط ولأرى مكاناً واحداً أتطلَّع إليه: “قصر البابوات“.
بُنِيَ قصر البابوات في 1252، حينما قرَّر البابا نقل مقرّه للمرة الوحيدة في التاريخ من روما إلى مدينة “أفينيون” الفرنسية، وذلك بسبب نزاع على السلطة بين الفاتيكان وبين ملك فرنسا، ولذلك خاف البابا الذي نصَّبه الفرنسيّون على حياته إن انتقل إلى روما. كانت شروحات القصر كلها بالفرنسية حصراً، مما كان فرصة غير مرغوبة لتحسين فرنسيَّتي الهزيلة، وقد كانت مظاهره من الداخل مملّة مقارنةً بعمارته الخارجية المبهرة، كما هي حال جلّ القصور والقلاع القديمة.
كنتُ في ضيقٍ من وقتي وأنا عائد إلى محطة القطار لأتوجه نحو “مرسيليا”، لذلك توقفتُ في أحد المخابز لأبتاع سندويشة أتناولها في طريقي. لم تكن تتحدث صاحبة المتجر كلمة إنكليزية تقريباً، ولكنها حاولت الدردشة معي قليلاً. سألتني عن بلدي وفهمتُ سؤالها بطريقة ما، وحينما أخبرتُها أني من الأردن فكَّرت لوهلة، ثم صاحت بحماس فائق وهي تقول: “آه… بغنْسِسْ غاااانيا!!” (“الأميرة رانيا”).
مدينة العرب
كان فندقي على مسافة قليلة من محطة القطارات الرئيسية في “مرسيليا” كما أحرصُ دوماً، ولذلك حملتُ حقائبي وسرتُ مباشرة من المحطة نحو نُزُلي. ومشيتُ بينهما لحوالي 15-20 دقيقة، وأقسم بأني لم أكد أسمع كلمةً في هذا الفاصل الزمني بأيّ لغة سوى اللغة العربية، ولا أقصد هنا أني سرتُ في شوارع متباعدة أو مهجورة، وإنما كنتُ أشقُّ طريقي شقاً بين حشودٍ من الناس وبين طاولاتٍ للمقاهي والمطاعم اقتحمت الأرصفة واكتظَّ حولها ناسٌ يتحدثون بلهجاتٍ عربية مغربية (وربما مشرقية أحياناً) في كل مكان. وقد تعلَّمتُ حينما تسوَّقتُ في المدينة بالأيام التالية أن اللغة الفرنسية ليست ضرورية للسكنى في هذا الحي.
قبل أن أصل إلى الفندق، رأيتُ شيئاً يقفز أمامي ويمرُّ بين ساقي فتاة تسير في الطريق. كان جرذاً بحجم القطة، وقد نظرت الفتاة نحوه ثم تابعت سيرها بلا اكتراث، وقد استنتجتُ من رد فعلها أنه ليس حادثاً جديراً بالذكر. وقد حرصتُ على أن أراقب الكائنات المحيطة بي بحذرٍ وأنا أسير في شوارع “مرسيليا” منذئذٍ.
سجن “مونت كريستو”
أُلْقِيَ بطل رواية “الكونت دي مونت كريستو” المشهورة في السّجن لأربعة عشر عاماً بتهمة مُلفَّقة، وكان السجن الذي حُبِسُ فيه بالرواية سجناً حقيقياً يقعُ على جزيرة قُبَالة مدينة “مرسيليا” اسمه “الشاتوديف” (أي: “قصر ديف”)، وهو يشبه في مكانه وصعوبة الهرب منه سجن “الكاتراز” الشهير في الولايات المتحدة.
وأعترف بأني لستُ معجباً جداً بهذه الرواية، لكنها حازت مكانةً معيّنة عندي بعد أن استمتعتُ لأكثر من 50 ساعة من كتابها الصوتي (فهي واحدةٌ من أطول الروايات قطّ)، وهو شعورٌ يشبه المكانة التي قد تكتسبها مدرسة درست فيها لتعوّدك على أروقتها وجدرانها وكثرة الذكريات فيها، حتى ولو لم تكن مولعاً بتلك الذكريات. ولهذا كنتُ أتحرَّق شوقاً لرؤية هذه الجزيرة وسجنها المنيع على أرض الواقع.
اكتشفتُ حينما وصلتُ “الشاتوديف” أن قيمة هذا المكان الوحيدة -تقريباً- يستمدها من الرواية التي كُتِبَت عنه، والتي بلغت من الشهرة أنها بدَّلت ملامح السجن نفسه. فقد أُخْلِيَت الجزيرة من السجناء والجنود وحُوِّلَت إلى مزار سياحي في عام 1890 (بعد نشر الرواية بخمسة وأربعين عاماً)، وعُدِّلَت تصاميم بعض زنازينها وحُفِرَت خنادق بينها لتماثل الخندق الذي حفره “الكونت دي مونتي كريستو” في الرواية هرباً من سجنه، ومُنِحَت أسماؤها لشخصيات الرواية بدلاً من نزلائها الحقيقيين الذين محاهم التاريخ.
المتحف العجيب
لم يكن هدفي من زيارة “مرسيليا” أن أرى المتاحف ولا أن أسير في أروقة مغلقة خانقة، بل كنتُ أتمنى شيئاً واحداً: وهو الإبحار. فأنا عاشقٌ للنشاطات البحرية بكل أنواعها، ولكن للأسف وكما خمَّنتُ بعد حادثتي الأولى مع زوارق “الكاياك” فإن الحظّ التَّعس ركبني من مصدرٍ غفلتُ عنه، واتَّضحت هذه الصورة تماماً بعد وصولي إلى “مرسيليا”. فقد أقمتُ في المدينة خمسة أيام كاملةٍ حُظِرَ فيها الإبحار بكلّ أنواعه من الصباح حتى المساء بسبب سرعة الرياح الهائلة التي تجاوزت 40 كيلومتراً في بالساعة.
كنتُ أستيقظ -رغم ذلك- في كل صباح وأتصل أولاً بمحلات “الكاياك” ثم محلات الإبحار الشراعي ثم محلات الغوص لأتوثَّق من أنها مغلقةٌ بلا استثناء، ولو كان القارئ يشكُّ في نسبة هذه المصادفة الغريبة إلى الحظ المشؤوم فعليَّ أن أُوضِّحَ أن الشركات التي تُشغِّل كل هذه الرحلات أكَّدت لي أن الطقس سيكون ممتازاً للإبحار في 29 سبتمبر، وهو اليوم الذي غادرتُ فيه “مرسيليا” إلى وجهةٍ أخرى كما سيأتي.
وبالنظر إلى هذا الاستهداف السافر فقد اضطررتُ إلى الاتكال على الطريقة السياحية الأشهر لقضاء الوقت: وهي المتاحف. وكنتُ قد سمعت أن في المدينة متحفاً للبحر المتوسّط يعتبر من أكبر وأهم المتاحف في فرنسا، واستبشرتُ بهذا الأمر لأن المتحف قد يكون متصلاً بالبحار وتاريخها وكائناتها بطريقةٍ من الطرق. وهذا المتحف جديدٌ جداً وكبير جداً ومتنوّع، فقد افتُتِحَ في سنة 2013، وهو مشهورٌ بتصميمه الحداثي “على هيئة مُكعَّب أسود” حسبما قرأتُ في ويكي الرحلات، وهي مصدري المعتمد للمعلومات عن كل بلد أسافر إليه.
اعتمدتُ على تطبيق “خرائط غوغل” للوصول إلى المتحف كما هي عادتي في كل مكان أذهب إليه، ووصلتُ إلى المكعب الأسود الكبير بالفعل، وهو على مسافة دقائق من ميناء مرسيليا وإلى جانب كاتدرائيتها العظيمة في مكانٍ لا تخطئه العين. ووقفتُ في الطابور واشتريتُ تذكرتي غالية الثمن ودخلتُ المتحف فوق جسر يمتدُّ على بحيرة جميلة. واستغربتُ حينما دخلت أنني لم أجد أمامي صالات العرض كما توقعت، بل طُلِبَ مني الجلوس في قاعة للانتظار مع عددٍ من رواد المتحف في غرفة ملأتها السماعات والأجهزة الصوتية. وقد أكدتُ للموظَّفين أني لا أمانع أبداً دخول المتحف بدون جهاز صوتي، لكنهم -لسببٍ ما- أصرُّوا على أن أتحلَّى بشيء من الصبر وأن آخذ السماعات وأنتظر في مكاني بلا نقاش.
مضت نحو عشر دقائق، ثم جاء “مرشدنا السياحي” أخيراً ليصطحبنا إلى المتحف، ولم يَفُتني هنا أن الموقف غدا غريباً جداً، إذ إني لم أدخل في حياتي متحفاً يصطحبك فيه “مرشد” إجباري، لكني فكرتُ بأن هذا الإجراء العجيب له علاقة -ربما- بأن المتحف جديد وأن أصحابه استهواهم هوس الإبداع والابتكار في تجربة المتاحف، كما يحدث كثيراً في سائر أنواع الابتكار بهذا الزمن. وأخذنا “مرشدنا” هذا في مصعد أخبرنا أنه سوف ينزل بنا إلى عمق عشرين متراً تحت سطح الأرض، ولن أزعم أن شكوكي هنا لم تجتز كل التوقعات، لكن فكرة الغوص إلى أعماق الأرض كانت جذّابة بحيث أني لم أشأ الاعتراض، وفكرتُ لوهلة بأننا ربما سندخل نفقاً تحت الماء لنشاهد منه كائنات البحر المتوسّط (يا للسذاجة).
انفتحت أبواب المصعد إلى منصّة أمامها عرباتٌ متّصلة ببعضها كالقطار، تماثل في مظهرها قطارات مدن الملاهي (المخصّصة لعمر 5-10 سنوات، وليس قطارات “الجبل الروسي” الشنيعة)، وكان مسار القطار يسير نحو كهفٍ صناعي كبير يشبه قصراً للأشباح في مدينة الملاهي نفسها. طُلِبَ منا أن نصعد القطار وأن نضع سماعاتنا وألا نُصوِّر أي شيء نراه في الكهف وأن نحذر حذراً شديداً من أن يسقط أي شيء منا على سكة القطار، وإلا فإن النظام بأكمله سوف يتعطل. وقد أسعفني ذكائي عند هذه المرحلة بأني ربما لستُ في المتحف الذي نويتُ الذهاب إليه.
سار بنا القطار في الكهف لمدّة ساعة أو نحوها. تبيَّن أن هذا الكهف هو عبارةٌ عن نسخة طبق الأصل عن كهفٍ اكتُشِفَ في مكانٍ قريبٍ من “مرسيليا” قبل ثلاثين عاماً، ويقع مدخل هذا الكهف حالياً على عمق 30 متراً تحت الماء، لكن الغطاسين اكتشفوا أنه كان آهلاً بالحياة في عصور ما قبل التاريخ، إذ إنه كان يقع -آنذاك، في العصر الجليدي- فوق سطح الأرض، ويمتلئ هذا الكهف بآلاف الرسومات التاريخية لحيوانات منها الأحصنة والجواميس والأيائل، وبل وطيور الأوك العظيم المنقرضة التي تشبه البطاريق، وكان التجول في نسخته الصناعية تجربة ممتعة جداً رغم غرابتها غير المتوقعة.
وقد فهمتُ سبب خطئي حينما خرجتُ من هذا المكان العجيب (واسمه “متحف كهف كوسكير”)، فهو و”متحف البحر المتوسّط” بُنِيَا بذكاءٍ قبالة بعضهما؛ على مسافة 100 متر أو أقل، وكلاهما شكله مُكعَّب، وكلاهما لا يحملُ أي لافتة واضحة يراها الشخص الواقف بينهما! ولعل هذا التصميم العبقري كان في صالحي، إذ إني حصلتُ على جولة فريدة جداً بدلاً من متحف تاريخي مملّ.
شعاب الكالانك
بعد أن توثَّقتُ من أن حظي مع الرياح لم يتغير، قررتُ أن أقضي يوم الأخير في “مرسيليا” بجولة فاشلة في شعاب الكالانك سيراً على الأقدام، وهذه “الشعاب” هي جبال وأخاديد خلاّبة كان بإمكاني أن أزورها -في الطقس الجيد- من البحر. ركبتُ حافلةً من وسط المدينة سارت بي نصف ساعة إلى أطراف مرسيليا، ومن هناك سرتُ على قدمي صاعداً ونازلاً نحو عشرة جبال (خانني العد في نهاية المطاف) لمدة ثلاث ساعات.
كانت هذه الجبال من أكثر المناطق التي سرتُ فيها وعورةً، وكانت الريح تعصفُ بقوة رهيبة حتى شعرتُ أحياناً بأنها قد تزلُّ بقدمي هنا أو هناك، وقد خلتُ مرات كثيرة أني كنتُ على شفى كارثة جديدة في أحضان الطبيعة، لكن في هذه المرة قابلتُ عدداً كافياً من الناس، ووجدتُ طريقي إلى الحضارة بسهولةٍ أكبر بكثير من المرة الماضية.
100 نكهة ونكهة من البوظة
كانت وجهتي الأخيرة في فرنسا هي مدينة “نيس” الواقعة بأقصى الشرق، قرب الحدود مع إيطاليا، وسرعان ما وقعتُ في حبّ هذه المدينة الصغيرة -نسبياً- لجمال شواطئها ومنطقتها التاريخية ذات الشوارع الضيّقة والمحلات الشعبية. وأفضل ما في هذه الأسواق الصغيرة -بالنسبة لي- كان محلاً عجيباً تعرَّفتُ إليه -كالعادة- من ويكي رحلات، وقد يبدو للوهلة الأولى شعبياً ومتواضعاً، ثم يتبين أنه جنّة مذهلة لمحبِّي المثلَّجات فيها أكثر من 100 نكهةٍ مختلفةٍ من البوظة!
المؤسف هو أن أسماء النكهات كلها بالفرنسية، وقد قضيتُ فترات طويلة جداً وأنا أحاول فهم هذه الأسماء وسبر أغوارها ولم أُفْلِح دوماً. من أغرب النكهات التي صادفتها: نكهة الزيتون، وفاكهة الصبارة، والتين، والكستناء، والعرقسوس، والأرز بالحليب، وحلوى النوغة، وخبز الزنجبيل، وسكاكر التاغادا، ونكهات الزهور مثل الياسمين والبنفسج وغيرها.
مونتي كارلو
تقعُ على مسافة نصف ساعة بالقطار من نيس “دولة” متواضعة هي ثاني أصغر دول العالم بعد الفاتيكان، وهي رغم صغرها من أكثر مدن العالم اكتظاظاً وأغلاها سعراً. وقد كانت هذه الدولة -وهي “موناكو”- من أغرب الأماكن التي زرتُها في حياتي.
أول معضلةٍ واجهتني في المدينة هي الخروج من محطة القطار. كان “مخرج” المحطة هو مصعداً من 15 طابقاً استقلَّيته مع عدد من الركاب الذين ضغطوا أحد الأزرار، وافترضتُ أنهم يعرفون -بطبيعة الحال- أين هم ذاهبون، وأن كل ما عليَّ هو أن أتبعهم. وخرجتُ مع هؤلاء حينما وصلنا وجهتنا لأجد نفسي على قمة جبلٍ مطلٍّ على مدينة “مونتي كارلو” وأمامي طريق سريعٌ ملأته بعض أغرب وأغلى السيارات التي رأيتُها قط.
وسرعان ما اكتشفت مشكلتين زادتا معضلتي سوءاً: الأولى هي أن شبكة الهاتف الفرنسية لا تعملُ في “موناكو”، ولذلك فليس عندي اتصال بالإنترنت، وأما الثاني فهي أن هذه المدينة هي متاهةٌ من السلام والمصاعد، إذ إن المدينة تمتلئ بعشرات أو مئات المصاعد العامة والمجانية، والتي تجعل السير في المدينة تجربةً من أفلام المستقبل التي تُبْنَى فيها مدن الـCyberpunk على هيئة طبقات عديدة متوالية.
بعد أن درتُ في ثلاث أو أربع دوائر حول محطة القطار لمدة نصف ساعة، وصلتُ إلى سلسلة من الشوارع والمصاعد التي نزلت بي من التلَّة المرتفعة إلى وسط المدينة، وكانت تمرُّ هذه الطرق الغريبة في جسورٍ تسيرُ فوق طبقات المدينة السكنية، ثم تنزل عبرها بالمصاعد العامة. وقد كُسِيَت سقوف هذه البنايات المكتظّة شجراً بسبب ضيق مساحات المدينة، أو ربما رغبة من سكانها بإعادة إحياء أعجوبة “حدائق بابل المُعلَّقة”.
زرتُ في هذه المدينة المستقبلية واحداً من أعظم المتاحف التي رأيتها، وهو “متحف المحيطات” الذي أسَّسه “جاك كوستو” (وهو من رواد الغوص في أعماق البحار)، وفيه نموذج طبق الأصل عن أول غواصة في العالم والتي كانت على شكل برميل ينزل تحت السفن استُخْدِمَ في حرب الاستقلال الأمريكية، وكانت فيه تجربة ثلاثية الأبعاد للمحيطات، وأكواريوم ملحق فيه، فكانت هذه فرصتي لتلبية شيءٍ من شوقي للبحار.
وبالتأكيد، فعلى كل من يزور “مونتي كارلو” أن يلقي نظرة على كازينو “جيمس بوند” الشهير. وقد مررتُ في طريقي إلى “الكازينو” بعرضٍ فارهٍ لليخوت التي تبلغ أسعارها عشرات الملايين، والذي كانت فيه أفخر يخوت العالم (ومن ضمنها يخوت إماراتية وخليجية). كما أني دخلتُ بعض المحال التجارية المطلّة على الميناء التي لفتت نظري، ورأيتُ في أحدها هذه الجرّة التي يبلغ سعرها 26,000 ألف يورو، وقد لذتُ بعدها بالفرار خوفاً من أن أدفع أو أكسر بحركة خاطئة (وقد كنتُ محملاً بالحقائب والأثقال) تحفة غبيّة تدفعني إلى الإفلاس.
كانت مقصورة قطار العودة إلى “نيس” مكتظّة بالركاب عن آخرها، بحيث أن معظم الركاب لم يجدوا مكاناً لأنفسهم إلا وقوفاً، بل وإنهم احتلُّوا كل أماكن الوقوف الممكنة في الممرات وحول الأبواب بحيث أن المقصورة حُشِرَت بالناس عن آخرها. وحالما انغلقت أبواب القطار وبدأ بالحركة تردَّد في المقصورة صوت صراخٍ جنونيٍّ طفوليّ وضرب غتيفٌ على الزجاج. والتفت نظري -مثل سائر الركاب- نحو الباب بهلع، وقد خشيتُ أن ذراعاً أو ساقاً قد علقت بين دفتي الباب وسط الزحام الفظيع، وأن الأمر قد ينتهي بما هو أسوأ.
ولم يكن الواقع بالسوء الذي تصوَّرته، لكن الصراخ لم يتوقف أبداً: إذ كان مصدره طفلةً في السابعة أو الثامنة تَضْرِبُ الزجاج بعنفٍ وتصيح بهلع: “ماما! ماما!!!”. التفَّ حشدٌ صغير حول الطفلة خلال دقائق توافد من أنحاء القطار كافة، وتبيَّن أن أبواب القطار قد انغلقت -وسط الزحام الخانق- بعد أن صعدته الفتاة وقبل أن تدخله أمها، فأصيبت الطفلة المسكينة بالهلع الشديد، وانقطعت جميع سبل التواصل بينهما بعد انطلاق القطار لأنه يسير في نفقٍ طويل بين الجبال منعزلٍ عن كل وسيلة من وسائل الاتصالات. كان بحوزة الفتاة هاتف نقال لحسن الحظ، وقد رافقها أربعة أشخاص بذلوا جهدهم في تهدئتها وفي النزول معها في أول محطة قادمة، ولم أنزل معهم لأتابع نهاية الحكاية، لكني أفترضُ أنها كانت بلمِّ شملٍ سعيد.
الآمال المُحطَّمة
كنتُ أحجز في كل مساء وأنا في “نيس” رحلة بحرية لأستيقظ في الصباح وأسمع أنها ألغيت بسبب سوء الطقس، وقد ألغيت آخر هذه الرحلات في يومي قبل الأخير بالمدينة قبل ربع ساعة من موعد انطلاقها، وبما أني كنتُ قد وصلتُ القارب فدعاني قبطان الزورق -كتعويضٍ- للجلوس والدردشة معه، ثم أكَّد لي أن الطقس سيكون مثالياً يوم غد للإبحار.
وبسبب حظي الممتاز فكنتُ قد حجزتُ في يومي الأخير بالمدينة رحلة عالية الكلفة إلى “الوادي العظيم”، ولذلك فإني تمنَّيتُ للقبطان رحلة سعيدة (ولعلِّي أضمرتُ أمنية بأن تهبَّ عاصفة عاتية تُغْلِقُ موانئ فرنسا كلّها، لكن ذلك لم يتحقق).
وعندما عدتُ مساءً إلى النُّزُل الذي أسكن فيه؛ وهو شقة خاصة تؤجِّر غرفها صاحبتها، وجدتُ رسالة من صاحبة النزل تخبرني فيها أن الطقس جميل جداً غداً، ولذلك فقد قرَّرت الإبحار مع أصدقائها صباحاً، ودعتني للانضمام إليهم مجاناً. وفكرتُ وقتها بسؤال أحد المشعوذين عن طرق إزالة الحظ المشؤوم.
الوادي العظيم
رافقني ستة أشخاص في السيارة السياحية التي أقلَّتنا إلى “الوادي العظيم” أو “أخدود فُورْدُون”، وهو وادٍ طبيعي مذهل وفائق الشهرة تفصله ثلاث ساعات عن المدينة، وبالتالي فإني كنتُ على وشك إمضاء عشر ساعات في السيارة مع هؤلاء الأشخاص. وقد عرفتُ مع الوقت أن رفاقي كانوا هؤلاء: زوجان أمريكيان، وشابان من سنغافورة، وشاب من البرازيل، وفتاة من مولدوفيا، وسائق فرنسي كان مرشدنا السياحي والترفيهي. ولم يكد الزوجان الأمريكيان يسمعان عن بلدي حتى التفتت المرأة المسنّة نحو زوجها وهي تقول بحماسٍ فائق: “أتُصدِّق ذلك؟ إنه من الأردن. يا للعجب!”.
وسرعان ما فسَّرت لي المرأة سبب حماستها، إذ إن ابنتهما المولودة في “كاليفورنيا” بالولايات المتحدة كانت قد سافرت قبل شهور للعمل في مؤسسة تطوعية بالأردن، وحدث خلال هذه الشهور أنها أشهرت إسلامها وتزوجت شاباً أردنياً وعادت بصحبته إلى بلادها!
استمعنا أثناء الرحلة الطويلة إلى تاريخ مدينة “نيس” الذي رواه لنا سائق السيارة بأسلوب سطحي أحياناً وهزلي أحياناً، وقضيتُ أوقات الفراغ الطويلة في قراءة كتاب تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان. وتوقفنا للمرة الأولى في بلدة صغيرة تشتهر بأنها تبدو “كأنها من العصور الوسطى” تقع وسط الغابة، وذهب رفاقي لاحتساء القهوة والتجول في بلدة مملة مثل السياح المخلصين، وأما أنا فقد استغلَّيتُ الفرصة لأمشي في مسار صغير يقود من البلدة إلى نهرٍ خلاّب.
وقد تابعنا طريقنا بعد ذلك لنرى النهر وواديه من على ارتفاعات شاهقة تحومُ فيها النسور السمراء التي كان سائق السيارة مولعاً بها ويُحدِّثنا عنها طوال الرحلة، فعرفنا منه أن هذه النسور انقرضت بسبب الصيد (كما هي العادة بالنسبة لمعظم الحيوانات في هذا الزمن) ثم أُعيدَ توطينها في الوادي ضمن مشاريع مكلفةٍ لصَوْن الحياة البرية (كما هي العادة كذلك).
كانت محطُّتنا الأخيرة بلدة مملة أخرى لتنتناول فيها الغداء، وقد كنتُ أرغب بالتشكِّي من كثرة وقوفنا في معمورة الإنسان بدلاً من أحضان الطبيعة، لكن كانت للبلدة إطلالات مقبولة على الوادي ونهرٌ يسير في وسط ساحتها الرئيسية وقد بُنِيَت فوقه جسور على مستويات عِدّة لتعبر بين شقِّي المدينة (الذين أقيم كل منهما على جانبٍ من الجبل). وقد كانت كنيسة البلدة لافتةً بالنسبة لي بشكل خاص رغم العدد الهائل من الكنائس التي رأيتها في أوروبا، وذلك لأن تصميمها الداخلي مبنيٌّ حصراً من الحجر، فتبدو وكأنها بحقٍّ بناءٌ من العصور الوسطى.
حينما عدتُ إلى “نيس” لأودِّع بعضاً من نكهات البوظة المئة، وجدتُ سفينة شراعية عظيمة راسية في الميناء تبدو وكأنها من رواية “جزيرة الكنز”. اكتشفتُ أن هذه سفينة شراعية حقيقية من سنة 1700 أعاد بناءها السويديون بالكامل ليبحروا بها حول العالم، وقد حوَّلها إلى متحفٍ متنقل للسفن الشراعية، إذ يمكن للسياح دخولها والتجول في مرافقها بل وتسلُّق أشرعتها والمساعدة في لفِّها وفتحها. لكن وبالنظر إلى حظِّي المتوقَّع مع النشاطات البحرية، فقد كانت التذاكر نافذة لهذا اليوم.