قصَّة موجات الجاذبية
ما هي موجات الجاذبية؟
يعود تاريخ مفهوم أمواج الجاذبية إلى مطلع القرن الحالي. فقبل القرن العشرين، كان مُجتمع علماء الفيزياء لا يزال مُستسلماً للتصور القديم الذي وضعه نيوتن عن قوة الجاذبية، ولم يفكر أحدٌ بوضع نموذجٍ بديل عنه. لم تتغيَّر هذه الحال حتى نشر الفيزيائي الألماني المتخرج حديثاً، ألبرت آينشتاين، بحث النسبية الخاصة في سنة 1905، الذي أتبعه بالنسبية العامة بعدها بعشر سنوات. أثبتت نظرية النسبية نجاحاً باهراً في تفسيرها لطريقة عمل الجاذبية، فقد أثبتت التجارب خلال السنوات اللاحقة صحَّة مُعظم المفاهيم والتصورات قدمتها. كانت إحدى التصورات الجديدة الأساسية التي وضعتها نظرية آينشتاين عن الجاذبية هي أنها قوة تأثيرها محدود بامتداد مجالها، فمثلما أن لأسلاك الكهرباء والمغناطيسات مجالاتٍ حولها تنقل قوتها، فإن للجاذبية أيضاً مجالاً مماثلاً ولا يُمكنها أن تحدث تأثيراً على جسمٍ إلا لو وقع ضمنه. على سبيل المثال وحسب التصور القديم لنيوتن، إذا ما حدث وأن اختفت الشمس فجأة في أحد الأيام فإنَّ الأرض ستخرج من تأثير جاذبيتها على الفور وتبدأ بالانجراف في الفضاء بحُريَّة. لكن وفق نظرية آينشتاين، لا يُمكن لجاذبية الشمس أن تفقد تأثيرها على الأرض حتى تخرج من مجال الشمس الجذبي، وهذا المجال ينتشر عبر الفراغ بسُرعة الضوء. بما أنَّ بين الأرض والشمس مسافة 150 مليون كيلومتر، أي 8 دقائق ضوئية تقريباً، فحتى لو حدث وأن اختفت الشمس من عالمنا فجأة، ستسمرُّ الأرض بالدوران على وتيرتها المُعتادة لمدة ثماني دقائق.
الآن، ولفهم عمل موجات الجاذبية، دعنا ننتقل قليلاً إلى الذرات. على الأرجح أنَّك تذكر أن نواة الذرة مُكوَّنة من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات محايدة، وتُحيط بهذه النواة إلكترونات سالبة تبقى قريبةً من النواة بسبب انجذابها نحو البروتونات المتضادة معها في الشحنة. الشيء الذي يجعل الإلكترونات ترتبط بالبروتونات هو المجال الكهرومغناطيسي، وهو يُطابق في عمله مجال الجاذبية تقريباً، فهو ينتشر في كل الاتجاهات بسُرعة الضوء، ولا يُمكن للقوة الكهرومغناطيسية أن تحدث تأثيراً إلا من خلاله. هذه كلها مجالات، أين يأتي دور الموجات إذاً؟ إن كل إلكترون حول نواة الذرة له مستوى طاقة مُعيَّن، والمسافة التي بينه وبين النواة تتناسب طردياً مع مستوى الطاقة هذا، فالإلكترونات الأقرب إلى النواة لها طاقة أقل. لكن عندما تتعرَّض الذرة لحالة إثارةٍ ويزداد مستوى الطاقة فيها، يُمكن أن يقفز إلكترون إلى مستوى طاقة أعلى من مستواه الأصلي، وذلك يجعل حالة الذرة غير مستقرة. لذا، بعد مضي فترةٍ من الوقت سيعود الإلكترون إلى مستوى طاقته الأصلي، بعد أن يتخلَّص من طاقته الزائدة على شكل فوتون يُطلقه بعيداً عن الذرة. هذا الفوتون هو المُكوِّن الأولي لأشعة الضوء، أو – بعبارةٍ أخرى – الموجات الكهرومغناطيسية.
نفس هذه الظاهرة تقريباً يُمكن أن تحدث في حالة الجاذبية. فمجالات الجاذبية تدفع الأجسام في الفضاء للدوران حول بعضها، وكلما اقترب جسمان من بعضهما، كلما اقتربت الأرض من الشمس مثلاً، ستخضع لتأثير أقوى من مجال جاذبية الشمس، ولذلك ستزداد سُرعة دورانها حولها. لكن الأرض تقترب وتبتعد عن الشمس باستمرارٍ على مرِّ السنة لأن مدارها بيضاوي الشكل، ولذلك بعد مضي مُدَّة من الوقت، سرعان ما ستبتعد ثانية، وعندها ستتباطأ سرعتها، وسوف تطلق طاقتها الزائدة على شكل موجة جاذبية. ستنتشر هذه الموجة عبر الفضاء بسُرعة الضوء نحو جميع الاتجاهات، تماماً مثل الأمواج الكهرومغناطيسية.. أي الضوء نفسه. على عكس موجات الضوء التي تكون عادةً أصغر حجماً بكثير من مصدرها، بحيث أن طولها لا يتجاوز عدَّة كيلومتراتٍ على الأكثر وفي بعض الأحوال يكون أقصر من قطر الذرة، فإنَّ موجات الجاذبية تكون أضخم بكثيرٍ من المصدر الذي تنبعث منه، حيث يُمكنها (نظرياً) أن تكون بحجم كوننا بأكمله، بل من المُمكن أن تتجاوز في حجمها حجم الكون، لولا أنَّ ذلك سيجعل الإحساس بها أو اكتشافها مستحيلاً علينا.
من أين تأتي أمواج الجاذبية؟
قد تكون قرأت في بعض الصفحات العلمية عن مصدر موجات الجاذبية، رُبَّما مرَّ عليك أنها تنبعث من اندماج ثقوب سوداء أو تصادم نجوم نيوترونية أو أشياء غريبة كهذه، لكن ذلك على الأرجح أعطاك الفكرة الخاطئة عن هذه الموجات. بالحقيقة، أمواج الجاذبية منتشرةٌ في الكون بقدر ما هو الضوء منتشر: ومثلما أن الضوء هو موجة منبعثة من تفاعلات القوة الكهرومغناطيسية، فإنَّ موجات الجاذبية تنبعث من تفاعلات تجاذبية، بحيث أنَّ جذب الأرض لجسدك قادرٌ لوحده على إصدار أمواج جاذبية تحت ظروفٍ ما. لماذا إذاً لم تسمع عن انبعاث هذه الموجات إلا عند وُقوع ظواهر غريبة في الفضاء البعيد، مثل انفجار النجوم أو دوران الثقوب السوداء بسُرعاتٍ فائقة حول بعضها؟ السبب ليس أن أمواج الجاذبية لا تصدر إلا من ظواهر كونية نادرة، بل لأننا لا نستطيع أن نلتقطها إلا عند انبعاثها من تلك الظواهر.
حسب تصورنا الحالي عن الكون، توجد أربع قوى فيزيائيَّة رئيسيَّة تحكم كل التفاعلات التي نراها من حولنا، هذه القوى هي: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة، والشديدة. إجمالاً، تُعتبر القوة الكهرومغناطيسية القوة المُسيطرة على التفاعلات الفيزيائية على مستوى الذرات والجسيمات تحت الذرية، بينما تسيطر الجاذبية على التفاعلات بين الأجسام الكبيرة في الكون مثل الكواكب والنجوم. يُمكن تمثيل ذلك بأنَّ الجاذبية، رغم أنها قوة تؤثر على أي جسمين لهما كتلة، لا تلعب أي دورٍ يذكر بربط الجزيئات والذرات في عالمنا. فالقوة الكهرومغناطيسية هي التي تربط الإلكترونات بنوى الذرات، وأما القوى النووية الضعيفة فهي التي تجمع بين النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة. أما الجاذبية فليس لها دورٌ يذكر في ربط مكونات الذرة ببعضها بعضاً، وذلك لأنها قوة كونية ضعيفة.
فكر بالأمر، هل سبق وأن شعرت بأي تأثير للجاذبية على حياتك اليومية؟ نظرياً، جسمك يؤثربقوة جذبٍ على لوحة المفاتيح القابعة أمامك، وعلى الشخص الجالس بجانبك، وكذلك على البناء الذي تجلس فيه. لكن هذه القوة صغيرة جداً بحيث يستحيل أن تشعر فيها (مع العلم أن ثمَّة عوامل أخرى على سطح الأرض ستجعل ملاحظة تأثير هذه القوة عليك شبه مستحيلة). مع ذلك، لولا قوة الجاذبية لكنا نطفو الآن في الفضاء. هنا يكمن الأمر: فلكي تشعر بأي أثر لقوة الجاذبية، عليك أن تتعامل مع أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. فمع أنَّ قوة الجاذبية لا تكاد تحمل أي تأثير على الذرات والجزيئات الصَّغيرة، إلا أنها هي القوة الأساسية التي تربط كل الأجسام الكبيرة في الكون تقريباً. فنحنُ متعلقون بالأرض، والأرض مرتبطة بالشمس، والشمس مرتبطة بمركز المجرة، والمجرة مرتبطة بالمجموعة المجرية المحلية، فقط بفضل الجاذبية.
بالعودة إلى النقطة الأولى، مثل جميع تأثيرات قوة الجاذبية، فإنَّ موجات الجاذبية الصَّادرة عن التفاعلات بين الأجسام المُحيطة بنا تكون في مُعظم الأحوال صغيرة جداً، أصغر ممَّا يُمكنك أن تتخيل بأي حال، بحيث أن الإحساس بها في مُعظم الأحوال مستحيلٌ حتى بأكثر التقنيات المتوافرة لنا تطوراً وتقدماً. حسب مثالٍ أعطاه فيزيائي من مُنظمة “ليغو” (المنظمة التي حققت الاكتشاف)، لو كان لدينا جسم يمتد من الشمس حتى أقرب النجوم إلينا، وهو نجم بروكسيما القنطور، أي على امتداد مسافةٍ تعادل نحو 25 ترليون كيلومتر، ومرَّت عبره موجة جاذبية قويَّة صادرةٌ عن تصادم ثقبين أسودين مثلاً، فإنَّ تأثيرها عليه سيقتصر على ضغطه بمقدارٍ يُماثل سمك شعرة من رأس إنسان.
لهذا السبب، نحن لسنا قادرين بالتقنية المتوافرة لنا الآن على التقاط أمواج الجاذبية أو الإحساس بها إلا عند وُقوع ظواهر كونيَّة نادرة شديدة العُنف، تُسبِّب تفاعلاتٍ شديدة بين أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. بما أنَّ الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية هي من بين أعلى الأجسام كتلةً في الكون وأكثرها كثافة، فإنَّ لها قوة جاذبية هائلة تجعلها مرشحات ممتازةٍ لإصدار موجات جاذبية يُمكننا التقاطها بتقنياتنا الحالية. من المُحتمل أن نستطيع في المستقبل البعيد رصد أمواج الجاذبية الصَّادرة عن تفاعلاتٍ بسيطة، مثل دوران الأرض حول الشمس أو التجاذب بين الأرض والقمر، لكنَّ ذلك يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر.
كيف تمكن العلماء من اكتشاف شيءٍ مثل هذا؟
مع أنَّ الفزيائي الألماني ألبرت آينشتاين تنبأ بوُجود موجات الجاذبية قبل أكثر من 100 عام، إلا أنَّه اعتقد بالحقيقة أنها لن تكتشف أبداً، لأن “التقاطها مستحيلٌ بالنسبة إلينا”. في الواقع أيضاً، مع أن آينشتاين كان أول من اقترح وُجود هذه الموجات عندما طرح نظرية النسبية العامة، إلا أنَّه غير رأيه ونفى وجودها في ورقة نشرها سنة 1936.
صدرت الموجة التي تحقَّق بفضلها اكتشاف موجات الجاذبية من اندماج ثقبين أسودين وقع قبل 1.3 مليار سنة، أي عندما كانت لا تسكن كوكب الأرض سوى بكتيريا وحيدة الخلية، لكنَّ هذا الحدث وقع على مسافةٍ بعيدة جداً عنا بحيث لم تصل أمواج الجاذبية الصَّادرة عنه (والتي تسير بسُرعة الضوء) إلينا حتى شهور قليلة من الآن. التقطت أجهزة “LIGO” الموجة الصَّادرة عن اندماج الثقبين في 14 سبتمبر الماضي، حيث دام تأثيرها على الجهاز لمدة 0.2 ثانية تقريباً. سجَّلت أجهزة الحاسوب عُبور الموجة خلال ثلاث دقائق، لكنَّ تحليل البيانات والتأكُّد من صحتها أخذ عدَّة شهور. يعتبر مصدر هذه الموجة أعنف حدث رصدته البشرية في التاريخ، فقد كان الثقبان الأسودان يدوران حول بعضهما بسُرعة تتعدَّى 60% من سرعة الضوء قبل انبعاث الموجة مباشرة، وأدى تصادُمهما إلى إطلاق كميَّة من الطاقة تعادل 50 ضعف الطاقة التي تُشعِّها جميع نجوم الكون مُجتمعة. حوَّل الاصطدام كميَّة من المادة تماثل في كتلتها ثلاثة أضعاف كتلة الشمس إلى موجة جاذبية هائلة تعبر الفضاء بسُرعة الضوء، وتُسبِّب تموُّجاً في نسيج الفراغ الذي تمرُّ من خلاله.
لعلَّ أكثر جزءٍ مدهشٍ من اكتشاف موجات الجاذبية هي الطريقة التي تحقَّق بها الاكتشاف، فقد تطلَّب الأمر استعمال جهازٍ يُمكن أن يكون واحداً من أدق الآلات التي اخترعها البشر. يتكوَّن الجهاز الذي صمَّمته منظمة “ليغو” للالتقاط أمواج الجاذبية (وهو يُسمَّى الـ”Interferometer”) من نفقين طول كل واحدٍ منهما أربعة كيلومترات، يلتقيان عند أحد الطرفين. قرب نقطة الالتقاء يوجد جهاز يبث شعاعاً من الليزر، يمرُّ هذا الشعاع أولاً عبر منشورٍ يقسمه إلى خطين متعامدين: كلٌّ منهما يذهب عبر أحد النفقين. عند نهاية كلِّ نفق توجد مرآة تُعيد عكس الشعاع نحو نقطة انبعاثه. عندما يعود شعاعا الليزر إلى نقطة انبعاثهما يلتقيان في نفس النقطة وعند نفس التوقيت تماماً، وبما أنَّ كليهما يتكوَّنان من موجات كهرومغناطيسية متماثلة الطول والتردد، فإنَّهما يُلغيان بعضهما كلياً، ولذلك تختفي جميع أشعة الليزر العائدة من النفقين عندما تصطدم بالمنشور. أو هذا ما يُفترض أن يحدث تحت الظروف الطبيعية.
إذا ما حدث وأن مرَّت موجة جاذبية عبر الجهاز، ستتغيَّر أطوال شعاعي الليزر. فعندما تمرُّ موجة جاذبية عبر مادة أو وسطٍ من أي نوع، تُسبِّب تمدداً أو تقلُّصاً صغيراً فيه، ولذلك فإنَّ مرورها بشعاع الليزر سيجعل موجاته أقصر أو أطول قليلاً. هذا التغير بسيط جداً، بحيث أنَّ طول الشعاع سينقص أو يزداد بمقدارٍ أقل بكثير من حجم ذرة، لكنه سيحدث تأثيراً مُهماً: فعندما يلتقي شعاعا الليزر عند المنشور، لن يلغيا بعضهما هذه المرة، لأن أطوال موجاتهما أصبحت مختلفة. لهذا السبب، سيتمكَّن جزءٌ من الليزر من عبور المنشور، وسيلتقطه على الفور مستشعرٌ عالي الحساسية. يُمكن أن يعبر الليزر المنشورعدَّة مرَّاتٍ أثناء اصطدام موجة جاذبية به. في 14 سبتمر الماضي، تسبَّبت موجة الجاذبية التي اصطدمت بهذا الجهاز بعبور الليزر 8 مرَّات متتاليةٍ خلال مدة لا تتعدى 0.2 من الثانية.
ما فائدة هذا الاكتشاف إذاً؟
لكي أكون شفافاً معك، يمكنني القول أنه بالنسبة إليك.. لن يُحدث هذا الاكتشاف أي تأثير ذا قيمة على حياتك أو حياة أي إنسانٍ في أي وقتٍ قريب. بالأساس، نحنُ لا نعرف أي تطبيقات تكنولوجية قيِّمة حالياً لهذا الاكتشاف، وقد لا نجد أي تطبيقاتٍ له في المُستقبل. بالنسبة للعلم، فإنَّ قيمته هي في زيادة معرفتنا عن الكون المُحيط بنا فحسب. حتى الآن، كل ما نعرفه عن الفضاء الخارجي يقتصر بالكامل تقريباً على الأمواج الكهرومغناطيسية التي نرصدها من الأجسام البعيدة، هذه الأمواج يُمكن أن تكون ضوءاً مرئياً أو أشعة سينية أو أشعة غاما أو أمواجاً راديوية، وعلى أي حال، فهي العدسة الوحيدة التي أمكننا حتى الآن أن ننظر إلى الكون من خلالها. أما الآن، فقد حصلنا على أداةٍ جديدةٍ تماماً ولأول مرة في التاريخ نستطيع جمع المعلومات عن كوننا عبرها. ليس ذلك فقط… بل إنَّ هذه الأداة قد تكون المفتاح لفهم ظواهر كونيَّة لا يُمكننا التعرُّف عليها عبر الضوء أصلاً، مثل الثقوب السوداء.
مُعظم الأجسام الواقعة في الفضاء الخارجي تبعد عنا مسافاتٍ هائلةٍ جداً، بحيث أن إلسفر إليها أو حتى إرسال المركبات الاستكشافية يغدو مستحيلاً أو شديد التكلفة عند نقطة ما. حتى الآن، لم يسافر أي بشري لمسافة أبعد من من القمر، أي نحو 385 ألف كيلومتر من الأرض، كما لم تصل إلينا أي عيِّنة فضائية من مكانٍ أبعد من القمر سوى بعض المذنبات والكويكبات. أما أبعد مسافة ابتعدتها مركبة فضائية بشرية الصُّنع فهي فوياجر 2 التي قطعت نحو 16 مليار كيلومتر بعد 40 سنة من إطلاقها، وهو ما يُعادل أقل من 0.03% من المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا. لهذه الأسباب كلها، فإنَّ الطريقة الوحيدة المتاحة لنا لدراسة الكون تقريباً هي الضوء الذي نلتقطه منه، الضوء الذي يسافر مئات وآلاف السنوات ليَصل إلينا فقط. قد تعتقد أن تنوُّع مصادر الضوء يُمكن أن يصنع فرقاً، لكن الواقع هو أنَّه وبعدم وُجود وسيلة للنظر إلى الكون سوى الضوء يجعلنا محدودين بخواصه، ومن هذه الخواص أنَّه لا يسير سوى بخطوطٍ مستقيمة، وأنه يمكن أن ينعكس أو يمتصَّ بسهولة إذا ما اصطدم بمادة ما أثناء مجيئه إلينا.
أحد أبرز الأمثلة على الحالات التي نعجز فيها عن جمع معلومات عن الفضاء هي الثقوب السوداء. هذه الأجسام لها كتلة ضخمة وكثافة شديدة جداً بحيث أنَّها تمنع أي مادة نعرفها من الهرب من مجال جاذبيتها، بما في ذلك أشعة الضوء. كما أنَّ رصد الكثير من المجرات والنجوم يُمكن أن يكون صعباً أو مستحيلاً بسبب وُجود أجسام أخرى أمامها تحجب ضوئها عنها. هذه العقبات تجعل فهمنا للكثير من الأجسام الغريبة في كوننا محدودة، إلا أنَّ اكتشاف موجات الجاذبية – وتطور قدرتنا على رصدها – يُمكن أن يفتح مجالاً جديداً أمامنا. على عكس الموجات الكهرومغناطيسية، لا تتأثر موجات الجاذبية على الإطلاق بالوسط الذي تمرُّ من خلاله، لذلك عندما تصلنا موجة جاذبية مُنبعثةٌ من ثقب أسود يُمكننا التأكد من أنها تحمل معلومات دقيقةً عنه. كما أننا، على فرض أن تقنياتنا ستتطوَّر مستقبلاً، قادرون على التقاط موجات الجاذبية الصادرة عن أي جسمٍ في الكون، بغضِّ النظر عن طبيعته أو موقعه في الفضاء.
الأمر الآخر الذي يجعل العلماء متحمسين كثيراً لاكتشاف موجات الجاذبية هو أنها الحلقة الأخيرة غير المُؤكَّدة بعد في نظرية آينشتاين للنسبية العامة. فقد نجح العلماء حتى الآن بإثبات جميع المفاهيم المُهمة التي طرحتها هذه النظرية، وكانت هذه الموجات هي آخر مفهوم جوهري فيها لم يُثبَت تجريبياً بعد. إنَّ اكتشاف أمواج الجاذبية يعني أنَّ تصور آينشتاين عن قوة الجاذبية كان صحيحاً تماماً، ومع أنَّ معظم العلماء كانوا يتوقَّعون تحقيقه عاجلاً أو آجلاً، فذلك لا يُقلِّل من أهميته الكبيرة لتعضيد فكرتنا عن الكون الذي نعيش فيه. مع أنَّ نظرية النسبية العامة أثبتت نجاحاً تاماً حتى الآن في جميع الاختبارات التجريبيَّة التي أمكن إجراؤها لها، إلا أنَّ طبيعة قوة الجاذبية وعدم سُهولة اختبار تأثيرها إلا في الفضاء الخارجي جعلت إمكانية تجريب نظرية آينشتاين فرصةً نادرةً جداً، لكننا الآن.. قد نكون حصلنا على مفتاحٍ جديدٍ ممتاز لدراسة هذه النظرية، ولفهم فيزياء الكون بأكمله.
Comments 1
مرحباً
مدونة رائعة و تدوينة اروع
بالتوفيق لكم