
تمثيلٌ لكيفيَّة انتشارموجات الجاذبية حول ثقبين أسودين يتقاربان من بعضهما تدريجياً، حتى يصطدما ويندمجان. كلُّ مرحلة يقترب فيها الثقبان أكثر تُسبِّب انبعاث موجة جديدة.
ما هي موجات الجاذبية؟

تُمثل هذه الصورة التصوُّر الذي وضعه آينشتاين عن كيفية عمل قوة الجاذبية، حيث أنَّ لكل جسمٍ مجالاً جذبياً يتناسب مع كتلته يُتسبَّب بانحناء الفضاء حوله، وجذب الأجسام الأخرى باتجاهه.
الآن، ولفهم عمل موجات الجاذبية، دعنا ننتقل قليلاً إلى الذرات. على الأرجح أنَّك تذكر أن نواة الذرة مُكوَّنة من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات محايدة، وتُحيط بهذه النواة إلكترونات سالبة تبقى قريبةً من النواة بسبب انجذابها نحو البروتونات المتضادة معها في الشحنة. الشيء الذي يجعل الإلكترونات ترتبط بالبروتونات هو المجال الكهرومغناطيسي، وهو يُطابق في عمله مجال الجاذبية تقريباً، فهو ينتشر في كل الاتجاهات بسُرعة الضوء، ولا يُمكن للقوة الكهرومغناطيسية أن تحدث تأثيراً إلا من خلاله. هذه كلها مجالات، أين يأتي دور الموجات إذاً؟ إن كل إلكترون حول نواة الذرة له مستوى طاقة مُعيَّن، والمسافة التي بينه وبين النواة تتناسب طردياً مع مستوى الطاقة هذا، فالإلكترونات الأقرب إلى النواة لها طاقة أقل. لكن عندما تتعرَّض الذرة لحالة إثارةٍ ويزداد مستوى الطاقة فيها، يُمكن أن يقفز إلكترون إلى مستوى طاقة أعلى من مستواه الأصلي، وذلك يجعل حالة الذرة غير مستقرة. لذا، بعد مضي فترةٍ من الوقت سيعود الإلكترون إلى مستوى طاقته الأصلي، بعد أن يتخلَّص من طاقته الزائدة على شكل فوتون يُطلقه بعيداً عن الذرة. هذا الفوتون هو المُكوِّن الأولي لأشعة الضوء، أو – بعبارةٍ أخرى – الموجات الكهرومغناطيسية.

ينبعث الفوتون من الذرة عندما يرتفع مستوى طاقتها عن الحد الذي يجعلها مُستقرَّة. تنبعث موجات الجاذبية بطريقة شبيهة جداً.
من أين تأتي أمواج الجاذبية؟
قد تكون قرأت في بعض الصفحات العلمية عن مصدر موجات الجاذبية، رُبَّما مرَّ عليك أنها تنبعث من اندماج ثقوب سوداء أو تصادم نجوم نيوترونية أو أشياء غريبة كهذه، لكن ذلك على الأرجح أعطاك الفكرة الخاطئة عن هذه الموجات. بالحقيقة، أمواج الجاذبية منتشرةٌ في الكون بقدر ما هو الضوء منتشر: ومثلما أن الضوء هو موجة منبعثة من تفاعلات القوة الكهرومغناطيسية، فإنَّ موجات الجاذبية تنبعث من تفاعلات تجاذبية، بحيث أنَّ جذب الأرض لجسدك قادرٌ لوحده على إصدار أمواج جاذبية تحت ظروفٍ ما. لماذا إذاً لم تسمع عن انبعاث هذه الموجات إلا عند وُقوع ظواهر غريبة في الفضاء البعيد، مثل انفجار النجوم أو دوران الثقوب السوداء بسُرعاتٍ فائقة حول بعضها؟ السبب ليس أن أمواج الجاذبية لا تصدر إلا من ظواهر كونية نادرة، بل لأننا لا نستطيع أن نلتقطها إلا عند انبعاثها من تلك الظواهر.

مع أنَّ موجات الجاذبية موجودة في كل مكانٍ حولنا، إلا أنَّها ضعيفة جداً بحيث أن الإحساس بها بتقنيتنا الحالية أمرٌ مستحيل. الأجهزة المتوافرة لنا حالياً لا يُمكنها التقاط هذه الموجات إلا عندما تصدر عن ظواهر عنيفة جداً، مثل اندماج ثقبين أسودين (هذه الصورة مُجرَّد تمثيل بسيط، فتصوير الثقوب السوداء أمر مستحيل).
فكر بالأمر، هل سبق وأن شعرت بأي تأثير للجاذبية على حياتك اليومية؟ نظرياً، جسمك يؤثربقوة جذبٍ على لوحة المفاتيح القابعة أمامك، وعلى الشخص الجالس بجانبك، وكذلك على البناء الذي تجلس فيه. لكن هذه القوة صغيرة جداً بحيث يستحيل أن تشعر فيها (مع العلم أن ثمَّة عوامل أخرى على سطح الأرض ستجعل ملاحظة تأثير هذه القوة عليك شبه مستحيلة). مع ذلك، لولا قوة الجاذبية لكنا نطفو الآن في الفضاء. هنا يكمن الأمر: فلكي تشعر بأي أثر لقوة الجاذبية، عليك أن تتعامل مع أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. فمع أنَّ قوة الجاذبية لا تكاد تحمل أي تأثير على الذرات والجزيئات الصَّغيرة، إلا أنها هي القوة الأساسية التي تربط كل الأجسام الكبيرة في الكون تقريباً. فنحنُ متعلقون بالأرض، والأرض مرتبطة بالشمس، والشمس مرتبطة بمركز المجرة، والمجرة مرتبطة بالمجموعة المجرية المحلية، فقط بفضل الجاذبية.
بالعودة إلى النقطة الأولى، مثل جميع تأثيرات قوة الجاذبية، فإنَّ موجات الجاذبية الصَّادرة عن التفاعلات بين الأجسام المُحيطة بنا تكون في مُعظم الأحوال صغيرة جداً، أصغر ممَّا يُمكنك أن تتخيل بأي حال، بحيث أن الإحساس بها في مُعظم الأحوال مستحيلٌ حتى بأكثر التقنيات المتوافرة لنا تطوراً وتقدماً. حسب مثالٍ أعطاه فيزيائي من مُنظمة “ليغو” (المنظمة التي حققت الاكتشاف)، لو كان لدينا جسم يمتد من الشمس حتى أقرب النجوم إلينا، وهو نجم بروكسيما القنطور، أي على امتداد مسافةٍ تعادل نحو 25 ترليون كيلومتر، ومرَّت عبره موجة جاذبية قويَّة صادرةٌ عن تصادم ثقبين أسودين مثلاً، فإنَّ تأثيرها عليه سيقتصر على ضغطه بمقدارٍ يُماثل سمك شعرة من رأس إنسان.
لهذا السبب، نحن لسنا قادرين بالتقنية المتوافرة لنا الآن على التقاط أمواج الجاذبية أو الإحساس بها إلا عند وُقوع ظواهر كونيَّة نادرة شديدة العُنف، تُسبِّب تفاعلاتٍ شديدة بين أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. بما أنَّ الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية هي من بين أعلى الأجسام كتلةً في الكون وأكثرها كثافة، فإنَّ لها قوة جاذبية هائلة تجعلها مرشحات ممتازةٍ لإصدار موجات جاذبية يُمكننا التقاطها بتقنياتنا الحالية. من المُحتمل أن نستطيع في المستقبل البعيد رصد أمواج الجاذبية الصَّادرة عن تفاعلاتٍ بسيطة، مثل دوران الأرض حول الشمس أو التجاذب بين الأرض والقمر، لكنَّ ذلك يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر.
كيف تمكن العلماء من اكتشاف شيءٍ مثل هذا؟
مع أنَّ الفزيائي الألماني ألبرت آينشتاين تنبأ بوُجود موجات الجاذبية قبل أكثر من 100 عام، إلا أنَّه اعتقد بالحقيقة أنها لن تكتشف أبداً، لأن “التقاطها مستحيلٌ بالنسبة إلينا”. في الواقع أيضاً، مع أن آينشتاين كان أول من اقترح وُجود هذه الموجات عندما طرح نظرية النسبية العامة، إلا أنَّه غير رأيه ونفى وجودها في ورقة نشرها سنة 1936.
صدرت الموجة التي تحقَّق بفضلها اكتشاف موجات الجاذبية من اندماج ثقبين أسودين وقع قبل 1.3 مليار سنة، أي عندما كانت لا تسكن كوكب الأرض سوى بكتيريا وحيدة الخلية، لكنَّ هذا الحدث وقع على مسافةٍ بعيدة جداً عنا بحيث لم تصل أمواج الجاذبية الصَّادرة عنه (والتي تسير بسُرعة الضوء) إلينا حتى شهور قليلة من الآن. التقطت أجهزة “LIGO” الموجة الصَّادرة عن اندماج الثقبين في 14 سبتمبر الماضي، حيث دام تأثيرها على الجهاز لمدة 0.2 ثانية تقريباً. سجَّلت أجهزة الحاسوب عُبور الموجة خلال ثلاث دقائق، لكنَّ تحليل البيانات والتأكُّد من صحتها أخذ عدَّة شهور. يعتبر مصدر هذه الموجة أعنف حدث رصدته البشرية في التاريخ، فقد كان الثقبان الأسودان يدوران حول بعضهما بسُرعة تتعدَّى 60% من سرعة الضوء قبل انبعاث الموجة مباشرة، وأدى تصادُمهما إلى إطلاق كميَّة من الطاقة تعادل 50 ضعف الطاقة التي تُشعِّها جميع نجوم الكون مُجتمعة. حوَّل الاصطدام كميَّة من المادة تماثل في كتلتها ثلاثة أضعاف كتلة الشمس إلى موجة جاذبية هائلة تعبر الفضاء بسُرعة الضوء، وتُسبِّب تموُّجاً في نسيج الفراغ الذي تمرُّ من خلاله.

ما تراه أمامك هو المرصد الذي اكتشف موجات الجاذبيَّة! هذه الأنابيب البيضاء الطويلة هي أنفاقٌ يمتد كل واحدٍ منها مسافة أربعة كيلومترات، يوجد عند نقطة التقائها جهاز يبعث شعاعاً من الليزر. يعبر الليزر كل نفقٍ بأكمله حتى ينعكس على مرآة في طرفه البعيد ويعود مرَّة أخرى.

هكذا يبدو الـ”Interferometer” من الداخل تقريباً. يبث الجهاز الأسطواني في الأسفل شعاعاً من الليزر، ينقسم عنده مرور بمنشورٍ إلى جزئين، ينعكسان في نهاية كل نفقٍ ليعودا ويلتقيا معاً، وعندها يلغيان بعضهما. لو مرَّت موجة جاذبية عبر الجهاز ستغيِّر أطوال الشعاعين، ولذلك سيتمكَّن أحدهما من عبور المنشور والوصول إلى لاقط الضوء مُربَّع الشكل.
ما فائدة هذا الاكتشاف إذاً؟

يُمكن للعلماء رصد السَّماء بطُرق مختلفة، منها التقاط أشعة غاما كما في خريطة السَّماء هذه، لكن جميع هذه الطرق تنحصر بأنواع مختلفة من الموجات الكهرومغناطيسية، فقد كان الضوء (حتى وقتٍ قريب!) طريقتنا الوحيدة للتعرُّف على الكون.
مُعظم الأجسام الواقعة في الفضاء الخارجي تبعد عنا مسافاتٍ هائلةٍ جداً، بحيث أن إلسفر إليها أو حتى إرسال المركبات الاستكشافية يغدو مستحيلاً أو شديد التكلفة عند نقطة ما. حتى الآن، لم يسافر أي بشري لمسافة أبعد من من القمر، أي نحو 385 ألف كيلومتر من الأرض، كما لم تصل إلينا أي عيِّنة فضائية من مكانٍ أبعد من القمر سوى بعض المذنبات والكويكبات. أما أبعد مسافة ابتعدتها مركبة فضائية بشرية الصُّنع فهي فوياجر 2 التي قطعت نحو 16 مليار كيلومتر بعد 40 سنة من إطلاقها، وهو ما يُعادل أقل من 0.03% من المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا. لهذه الأسباب كلها، فإنَّ الطريقة الوحيدة المتاحة لنا لدراسة الكون تقريباً هي الضوء الذي نلتقطه منه، الضوء الذي يسافر مئات وآلاف السنوات ليَصل إلينا فقط. قد تعتقد أن تنوُّع مصادر الضوء يُمكن أن يصنع فرقاً، لكن الواقع هو أنَّه وبعدم وُجود وسيلة للنظر إلى الكون سوى الضوء يجعلنا محدودين بخواصه، ومن هذه الخواص أنَّه لا يسير سوى بخطوطٍ مستقيمة، وأنه يمكن أن ينعكس أو يمتصَّ بسهولة إذا ما اصطدم بمادة ما أثناء مجيئه إلينا.

مع أنَّ الوقت مُبكِّر قليلاً لتخمين نتائج هذا الاكتشاف، لكنَّه قد يحدث ثورة نوعيَّة في علم الفيزياء الفلكية، وقدرتنا على دراسة الكون من حولنا.
الأمر الآخر الذي يجعل العلماء متحمسين كثيراً لاكتشاف موجات الجاذبية هو أنها الحلقة الأخيرة غير المُؤكَّدة بعد في نظرية آينشتاين للنسبية العامة. فقد نجح العلماء حتى الآن بإثبات جميع المفاهيم المُهمة التي طرحتها هذه النظرية، وكانت هذه الموجات هي آخر مفهوم جوهري فيها لم يُثبَت تجريبياً بعد. إنَّ اكتشاف أمواج الجاذبية يعني أنَّ تصور آينشتاين عن قوة الجاذبية كان صحيحاً تماماً، ومع أنَّ معظم العلماء كانوا يتوقَّعون تحقيقه عاجلاً أو آجلاً، فذلك لا يُقلِّل من أهميته الكبيرة لتعضيد فكرتنا عن الكون الذي نعيش فيه. مع أنَّ نظرية النسبية العامة أثبتت نجاحاً تاماً حتى الآن في جميع الاختبارات التجريبيَّة التي أمكن إجراؤها لها، إلا أنَّ طبيعة قوة الجاذبية وعدم سُهولة اختبار تأثيرها إلا في الفضاء الخارجي جعلت إمكانية تجريب نظرية آينشتاين فرصةً نادرةً جداً، لكننا الآن.. قد نكون حصلنا على مفتاحٍ جديدٍ ممتاز لدراسة هذه النظرية، ولفهم فيزياء الكون بأكمله.
Comments 1
مرحباً
مدونة رائعة و تدوينة اروع
بالتوفيق لكم