
هل تحاول القول أنَّ هذا كلَّه بدأ من بكتيريا؟ الإجابة، في الواقع، هيَ نعم، وسأخبرك كيف.
إن مقدار الكذب والتدليس الذي تمارسه الصِّحافة العربية في هذا المجال غير عاديّ، فهي قادرة على عكس الحقائق عكساً تاماً عجيباً لا تدري كيف يحدث وكيف يُسوَّغ، وتجد أنَّ المبرُّر لهذا التدليس المخيف هو التمسُّك بمناهج فكرية تقليديَّة يُدَّعى بأنَّ لها علاقة بالدين وأنها لأجل حماية الإسلام، بينما السَّبب الوحيد للاستماتة بالدّفاع عنها أنَّنا نرفض الاعتراف بخطئنا وتقبُّل العلم الحقيقيّ على حاله. عندما حصلتُ على أول فرصةٍ لي لأطَّلع على مراجع علميَّة أجنبيَّة مُحايدة قبل بضع سنوات، كنت أيضاً معتقداً أنَّ شريحة كبيرة على أقلّ تقديرٍ من العلماء يرفضون نظريَّة التطور الآن، وكانت فكرتي عن النظرية شديدة السطحيَّة، فكنتُ أنا نفسي ممَّن كرسوا نفسهم لمعارضتها والحثِّ على تفنيدها. لكن… بمرور الوقت، وبالاطلاع على المزيد من المصادر ومشاهدة المزيد من الوثائقيات، كلُّ ما كنتُ أراه هو علماء أحياءٍ في كلُّ مكانٍ يتحدثون عن التطور ويقفزون من فوقه بكلُّ بساطة وكأنَّهم وضعوه في مقام الحقيقة البديهية، التي لا تتطلَّب أدنى قدرٍ من المناقشة. في نهاية المطاف، بدأتُ أدرك أنَّه لم يعد هناك أصلاً أشخاصٌ يتعبون أنفسهم الآن بالطعن في النظرية، فقد أصبح التطور – في كلِّ بقعةٍ من العالم تقريباً إلا بلداننا العربيَّة وقلائل غيرها – جزءاً من الحقائق الأساسية المثبتة عن العالم، مثله تماماً مثل حقيقة كرويَّة الأرض ودورانها حول الشمس.

رسم بيانيٌّ جميل، يوضّح مقدار التناسب بين مستوى الدخل في كل بلد (وهو ما يرتبط أيضاً بمستوى التعليم والثقافة إلى حدٍّ كبير) ومعدّل الإيمان بنظرية التطور. تتَّسم معظم دول العالم الأول بمعدلات فوق 60%، بينما في أعلى الدول عالمياً – وهي إيرلندا – يؤمن نحو 90% من السكان بالنظرية. ثمَّة دولة وحيدة تشذُّ بشكل واضح إحصائياً عن القاعدة هُنا، هي الولايات المتحدة.
سأوضّح لك في هذا المقال لماذا أجمع كلُّ علماء الأحياء في العالم على صحَّة التطور… لذا أرجو أن تقرأه بعناية وتركيز، وأن تحاول فتح عقلك ولو مبدئياً لإمكانية أن تكون هذه النظرية صحيحة. أرجو من كلِّ قلبي أن تحاول وزن الأفكار المطروحة أمامك بعقلك ومنطقك، لا بناءً على تصوُّراتك المسبقة التي وضعت في عقلك دون مبرّر منذ زمن، إذا قمتَ بذلك… فإنني سأقدّر تماماً رغبتك بالاقتناع من عدمه.
تشارلز دارون:

كانت زيارة دارون إلى جزء الغالاباغوس في شبابه (وهي جزرٌ منعزلة تتميَّز بالعديد من الحيوانات الاستثنائية، وأشهرها السلاحف العملاقة)، أحد أبرز الإلهامات التي أوحت له بنظرية التطور.
قبل كلِّ شيء… دعني أوضّح لك حقيقة يتجاهلها الكثير من المسلمين الذين يتحدثون عن التطور، أو يحاولون – عن علمٍ أو جهل – إغفالك عنها أو إيهامك عكسها الكليّ، وهي أن دارون كان عالماً. لقد كان تشارلز دارون مُنذ شبابه عالم طبيعة وأحياءٍ متفانياً، لقد كان رجلاً مثقَّفاً ومتعلِّماً واتَّبع منهجيَّة أكاديميَّة صارمةً في جميع أبحاثه وأعماله، وعلى رأسها نظرية التطور. كانت جميع طروحات دارون علميَّة بحتة، ومتركزةً على أدلَّة حسية جمعها بجهد كبير ليبني عليها استناجاته وفرضياته، وإنَّ إسهاماته في علم الأحياء كثيرة ومتنوّعة، فقد وصف العديد من أنواع الكائنات الحية وجمع عيّناتها وصنَّفها، في زمنٍ كانت معرفة الناس فيه عن الكائنات الحية بالمناطق النائية من العالم ضئيلةً جداً. لذلك أرجو أن تكنَّ الاحترام لهذا الرجل، فهو – سواءٌ أخطأ أم لا، وهو غالباً لم يخطئ – كان رجلاً مخلص النية عمل بأمانةٍ علميَّة وترك وراءه تراثاً أكاديمياً عظيماً، لم يترك ذرَّة منه مُعظم الذين يحاولون الاستهزاء بنظرياته.
على العموم، فكرة التطور في أصلها لم تبدأ بدارون، إنَّما كان هو محض مرحلةٍ من مراحل تطوُّرها، وكان الرجل الذي وضع مفهوم آلية عمل التطوُّر الذي يتفق عليه العلماء اليوم. تاريخياً، بدأت فكرة التطور في أشكالها الأولى بالظهور منذ عصر النَّهضة، حيث بدأ العلماء بمحاولة إيجاد تفسيراتٍ علميَّة لكيفيَّة نشوء الكون والحياة، لكن لم تكن هناك أفكارٌ واضحة كثيراً، بل مجرَّد افتراضات تقول بأنَّه من لا بد من وجود آلية علميَّة نشأت الحياة وفقاً لها، عوضاً عن أنها ظهرت من العدم. في مطلع القرن التاسع عشر، طُرِحَت للمرَّة الأولى فكرة التطور بشكلها الحديث، لكنَّ المفهوم وآلية العمل الدقيقة لم يكونا واضحين كثيراً، فقد طرحت النظرية بالبداية على أساس أنَّ التطور ناتجٌ عن صدفٍ عديدةٍ متلاحقة وأنواعٍ من الطفرات العشوائية في الكائنات الحية، لتجعلها تتغيَّر بالتدريج في شكلها وخواصِّها. هذه الفكرة البدائية التي طرحت في الأيام الأولى للنظرية، هي التي لا زال يحاول العديد من أعداء النظرية بين العرب أن يسوُّقوها على أنها التطور.

تشارلز دارون… الأب الروحي لنظريَّة التطور… والعدو اللدود للكثير من محاربي النظريَّة!
في منتصف القرن التاسع عشر، نشر كتابٌ يطرح نظريَّة جديدة هي الأولى من نوعها لتفسير آلية التطور، كانت حتى وقتها الفكرة الأكثر نضجاً واكتمالاً حول كيف يمكن أن تحدث عمليَّة التطور بالضبط: كان الكتاب هو أصل الأنواع. تأثر مؤلف الكتاب – دارون – كثيراً بأفكار من سبقوه من العلماء، خصوصاً النظريات المطروحة عن أسلوب تكيُّف الأنواع مع بيئتها للانسجام مع المحيط الذي تعيش فيه، والتنافس الشديد القائم بين الأنواع الحيَّة للبقاء، وأخيراً خرج بفكرته الأساسية: الانتقاء الطبيعيّ. تقوم فكرة هذه النظرية – كما قد يوحي اسمها – على أنَّ الطبيعة تنتقي الأنواع الحية الناجحة لتبقى، وتترك الأنواع الفاشلة لتنقرض. فمثلاً، إن كان هناك أسدٌ سليم معافى… وأسدٌ مريضٌ مصاب بمرض داء المثقبيات، فمن الطبيعيّ أن قدرة الأول على البقاء ستكون أعلى، لأنَّ مرض الآخر سيجعله ضعيفاً خائر القوى، ومن ثم سيعوقه عن الصيد وسيجعله يخسر أمام منافسيه في قيادة مجموعته من الأسود، لذلك سرعان ما سيموت، وسيساعد موته أكثر على بقاء الأسد الأول، لأنَّ منافسيه على الغذاء والتكاثر سيقلُّون. بهذا الأسلوب، لا تسمح الطبيعة إلا ببقاء الحيوانات والأنواع المستعدَّة للتكيُّف مع بيئتها بأسلوبٍ مناسب، أما إن فشل نوعٌ في هذا التكيف، فإنَّ الطبيعة ستقضي عليه وتقصيه من نزاع الحياة. لذلك نجد كل الحيوانات من حولنا مجهَّزة جداً للتعايش مع بيئتها، مخالب الأسود وأنيابها القويَّة وسرعة الفهد الهائلة بالعدو مثلاً هي تكيُّفات ساعدت هذه الحيوانات على البقاء بأن توفّر لها الصيد وبالتالي الغذاء الذي تحتاجه لتعيش.
لماذا نظريَّة التطور لا تواجه ثغراتٍ مميتة، وليست فيها مشكلة مع الدين كذلك؟

ليست محض مزحة سمجة، بل هناك الكثيرون ممَّن لا زالوا يؤمنون بأن الأرض مسطحة، وأيضاً الكثير ممَّن لا يؤمنون بالتطور..
من الضروريّ أيضاً إيضاح أن نظرية التطور، مثلها مثل العديد من النظريات، لها ثغراتها (التي لستُ بصدد تعدادها واحدةً واحدة، فهناك الكثير من المسلمين الذين عملوا على ذلك بالفعل لحسن الحظ)، وإلا لما كنَّا أسميناها “نظرية”. مثلاً… لا زالت نظرية التطور، رُغم أنَّ هذا ليس من اختصاصها تحديداً ولكنَّه مرتبطٌ بفكرة النشأة العفويَّة للحياة، عاجزةً عن تقديم تفسير واضح لكيفية نشوء الخلية الحيَّة الأولى، هذه معضلة يعرفها جميع علماء الأحياء، ولست أخجل من الإقرار بها أو أهتم بإخفائها. الثغرات في النظريات العلمية هي جزءٌ طبيعي من تقدُّم العلم، نظرية النسبية لآينشتاين وميكانيكا الكم لماكس بلانك، اللَّتين بنيت عليهما نصف تكنولوجيا عالمنا الحديث، كلا هاتين النظريَّتين مليئتان بالثغرات، ولذلك باتت أكبر معضلةٍ في علم الفيزياء منذ قرنٍ كامل هي إيجاد بديلٍ لهما، يتمكَّن من سدّ ثغراتهما. مع ذلك، كانت نظرية آينشتاين هي الدليل الذي استعمله العلماء لصنع المفاعلات النوويَّة، وكان من المستحيل ظهور الطاقة النوويَّة بدون نظرية النسبية. السبب ببساطة بنجاح نظرية آينشتاين والسبب الذي يجعل التطور أيضاً نظرية ناجحةً رغم مشاكلها، هو أنَّه عند وجود ثغرات في نظرية علميَّة فإنَّ ذلك لا يعني بالضرورة أنها باطلة، بل أنها لا زالت ناقصة وفي طور التحسُّن والتغيُّر، وهي عمليَّة يُساعد على إتمامها كل المُجتمع العلمي. صحيحٌ أن نظرية التطور فيها ثغرات كثيرة، لكن وكما سترى في الفقرات التالية، فإنَّ لها دلائل وإثباتاتٍ كثيرة أيضاً، كما أنها حتى يومنا هذا التفسير المنطقي الوحيد الذي يوضّح لنا علمياً كيف يمكن أن تنشأ الحياة، لذلك فإن نظرية التطور لا زالت في مرحلة البناء والدراسة، ولا زالت فيها نقاط ضعف، لكنَّها بالإجمال… نظرية علميَّة واضحة ومثبتة، ويؤمن بها كلُّ علماء كوكبنا الآن تقريباً.

إذا كانت نظرية الانفجار العظيم، التي تشرح كيفيَّة ولادة الكون، تُعتبر دليلاً على خلق الله بسبب توافقها مع آية: “أو لم يرَ الذين كفروا أنَّ السماء والأرض كانتا رتقاً ففتقانهما”، لماذا إذاً لا يُمكن اعتبار التطور مُجرَّد دليلٍ آخر على الخلق، كطريقة اختارها الله، لحكمة أو لأخرى، لبدء الحياة على الأرض؟
كيف حدث التطوُّر؟
لكي تفهم لماذا التطور هو حقيقة علمية مثبتة، ليس عليك أن تذهب إلى موقعٍ أخباري عربي أو جريدة محلية أو حتى كتابٍ لهارون يحيى وتسمعَ منه عن نظرية التطوُّر، لأنَّ هذه مراجع غير أكاديمية وغير مهنيَّة، ولا يمكن أن تعطيك إلا فكر ساذجة عن نظرية كبيرة ومعقَّدة. ما تقدّمه لك هذه الكتب والجرائد لا يختلف، في الحقيقة، عمَّا تعطيك إيَّاه وسيلة إعلامٍ غربية عندما تلخّص الأمَّة العربيَّة بتاريخها وحضارتها وواقعها بأنها “أمة من راكبي الجمال”، لا أعتقد أنَّك ستحبُّ ذلك الوصف بالتأكيد، فهو وصفٌ تافه لا ينقل شيئاً على الإطلاق من 4,000 عامٍ من تاريخ العرب الثري وثقافتهم وحضارتهم الفريدة. يفعل كتابنا الفذُّون الشيء ذاته تماماً، عندما يلخُّصون عملية التطور المعقَّدة بأنها مثلاً: “كائناتٌ تضجر من اليابسة فتقرر اختراع أجنحةٍ لتستطيع الطيران”. إذا كنتَ قد سمعتَ أوصافاً من هذا النوع طيلة حياتك، فمن الطبيعيّ أنك لن تؤمن بهذه النظريَّة التافهة التي توصف بهذا الشكل، لكن الأمر مختلفٌ كثيراً.
قبل كلُّ شيء، عليك أن تفهم جيداً أن التطور عمليَّة بطيئة…. بطيئة جداً. مجرَّد حدوث اختلافٍ صغير… كظهور نوعٍ أصغر حجماً من الذئاب، أو نوعٍ من النمور لديه أنيابٌ مختلفة الشكل عن أنياب النمور الأخرى، مجرَّد حدوث هذا التغير التافه هو عمليَّة قد تستغرق مليون عامٍ من الزَّمن. هل تعرف ما هي المليون العام؟ المليون عام تعادل 100 ضعف كلُّ التاريخ المسجَّل للجنس البشري على هذا الكوكب. سيستغرق الأمر مئات آلاف الأجيال من أحفادك وأحفادهم وأحفاد أحفادهم حتى يحدث أيُّ تغييرٍ من هذا النوع… أؤكّد لك أنَّه ليس بالأمر السَّهل أبداً.

المسار التطوري الذي يعتقد أن سلالة الأحصنة سلكته، بدءاً من حيواناتٍ صغيرة بحجم السناجب عاشت قبل 50 مليون عام، وحتى الأحصنة الحديثة التي نراها الآن. الأسماء العلميَّة لجميع الحيوانات واردةٌ إن كنتَ مهتماً بمراجعتها.
يمكن لنظرةٍ سريعة على خطّ تطور الحياة أدناه أن تعطيك فكرةً عن الأمر. بالحقيقة، هناك أمرٌ آخر ستلاحظه عندما تنظر إلى هذه الصورة، وهو حقيقة أنَّ تطوَّر الحياة سلك مساراً خطياً تدريجياً جداً، ولم تحدث فيه أيُّ قفزات مفاجئة تُذكَر طوال 3,600 مليون سنةٍ من تاريخ الحياة على الأرض. فأولاً… ترى أن كل شيءٍ بدأ من البكتيريا، بكتيريا بدائيَّة جداً سكنت الأرض وعمرَّتها وحيدةً، دون أيِّ شكلٍ آخر من الحيوانات إلى جانبها، استمرَّت الحال هكذا لـ82% من تاريخ الحياة الأرضية. ثمَّ وبمرور الوقت… بدأت تظهر الحيوانات الأكثر تعقيداً، وكانت كلُّها تعيش في البحر، وظلَّت الحياة على الأرض مقتصرةً بالبحار لأكثر من 90% من كل الأزمنة التي وجدت فيها حياةٌ على كوكبنا. أما انتقال الحياة إلى الجوّ فقد أخذ 200 مليون سنةٍ أخرى، حيث أنَّ الطيران كان يحتاج تكيُّفاتٍ معقَّدة أخذ ظهورها وقتاً طويلاً. وأخيراً بدأت تظهر مجموعة الثدييات (بعد أن انقرضت العديد من أشكال الحيوانات الأخرى بما فيها الديناصورات، قبل 65 مليون سنة)، وتسارع تطوُّر الثدييات، وكان من بين أحدثها ظهوراً الرئيسيات العليا والإنسان. وإن لم يكن البشر آخر من تطور من الحيوانات على الإطلاق، فالتطور عمليَّة دائمةٌ لا تتوقَّف، ونحن على ما يبدو لسنا إلا جزءاً منها.

هكذا تطوَّرت الحياة على الأرض. بدءاً من البكتيريا، وصُعةداً إلى اللافقاريات والحشرات، ثُمَّ الأسماك والزواحف التي تبعتها الديناصورات، والتي انقرضت بفعل اصطدام كويكبٍ ضخمٍ بالأرض، لتظهر من بعدها الثديِّيات، وآخرها الإنسان.

توزيع البشر الأرض على الأرض بحسب لون بشرتهم، يعبّر اللون الأصفر عن البشرة البيضاء والبني عن السوداء. ألا تلاحظ التناسب المدهش بين الظروف المناخية ولون البشرة؟ السَّبب هو أنَّ لون البشرة في الإنسان يتكيَّف مع كميَّة الأشعة فوق البنفسجية التي يتلقَّاها جسمك.
توزيع الكائنات الحية:

تطوَّرت هذه الحيوانات الغريبة على قارَّة أستراليا أثناء انعزالها الجغرافي الطويل عن باقي القارات، القائم منذ أكثر من 170 مليون عام. لذلك السَّبب، لم تحصل الكناغر على الفرصة للانتقال إلى قارات أخرى، وبالتالي فهي لا تعيش الآن إلا في أستراليا. لو كان قُدِّر لأستراليا أن تتَّصل بآسيا… لعلَّك كنتَ سترى الكناغر تعدو في سهول جزيرة العرب!

كما ترى… كانت النمور في الماضي تعيش بأنحاءٍ مختلفة ومتنوّعة جداً من العالم القديم، بينما لا تجد أياً منها في الأمريكيتين أو أستراليا أو الجزر الاستوائية البعيدة… وذلك لأنَّها تطورت في وقتٍ متأخر، لم تكن هناك فيه جسور جغرافية بين العالمين القديم والجديد. تشبه هذه الخريطة كثيراً خرائط توزيع الأسود والفهود.

في كل أنحاء الكرة الأرضية.. لا يعيش حيوان الليمور إلا على هذه الجزيرة المنعزلة قبالة سواحل أفريقيا.

تطوَّرت طيور الدودو ونشأت للمرَّة الأولى على جزيرة منعزلةٍ في المحيط الهندي تدعى موريشيوس، لأنَّ هذه الجزيرة مُحَاطةٌ بحواجز مائية من كل الجهات، لم تحصل هذه الطيور على أيّ فرصةٍ للانتقال إلى أماكن أخرى. لذا بمجرّد أن استقدم الأوروبيون الحيوانات المفترسة إلى الجزيرة، اختفت هذه الطيور من على وجه كوكبنا إلى الأبد.
أمثلة حيَّة على التطور:

الكلاب مع أسلافها!
مع ذلك، سيكون من الأكثر إقناعاً بالتأكيد أن نرى أمثلةً حيَّة على كيف يمكن للكائن الحيّ أن يتغيَّر، عوضاً من أن نبحث عن مستحاثات كائنات عاشت منذ ملايين السِّنين. لنضرب مثالاً بالكلاب! هناك حقيقة مثيرة للاهتمام قبل الحديث عن الكلاب، يؤمن بها الآن معظم علماء الأحياء، وهي أنَّ الكلاب بالأصل محض سلالة من الذئاب، لكن بعد أن روَّضها البشر واستئنسوها قبل عشرات آلاف السنين، بدأت تدريجياً بفقدان تكيفاتها التي اكتسبتها للعيش بالطبيعة، فحاجة الكلاب للاعتماد على نفسها في الصَّيد مثلاً أصبحت أقل، لأن البشر دوماً في جانبها لمساعدتها، بل وفي عصرنا الحديث أصبحوا هم يتولُّون إطعامها وتغذيتها بالكامل تقريباً، ولذلك أصبحت فكوكها ومخالبها أضعف، لأنها لم تعد ضروريَّة كثيراً. قد تبدو نظريَّة غريبة، لكنَّها بالواقع باتت مثبتةٌ بدراسات الحمض النوويّ.

ظهرت جميع هذه الأنواع والسُّلالات تقريباً خلال القرون الأخيرة، على أيدي البشر وتجاربهم في التهجين.
لكن ولأنَّ فهمنا لتركيب أجساد الكائنات الحية شديدة التعقيد ولخواصّ علم الوراثة لا زال محدوداً، لذا فإنَّ الانتقاء الصناعي الذي نقوم به يخرج دائماً بنتائج رديئة، لا يمكن مقارنتها بالانتقاء الطبيعي. لقد تمكَّن الناس من صنع سلالاتٍ جديدة كثيرة من الكلاب توافق الأشكال التي يريدونها، والتي يعتبرونها جميلة أو تلاقي قبولاً أكبر من بين مشتري الحيوانات الأليفة، لكن ولأنَّ التهجين والانتقاء الصناعي اللَّذين قاموا بهما لم يحصلا بشكلٍ مدروسٍ كفاية… فقد كانت لهذه التعديلات تداعيات كارثية على صحَّة الكلاب. في الطبيعة، عندما تنشأ سلالة من الحيوانات فيها ضعفٌ معيَّن أو نقصٌ ما، فإنها سرعان ما ستختفي، لأن الطبيعة ستفرضها (انتقاءٌ طبيعيّ)، وستصبح ضحيَّة سهلةً لأعدائها المفترسين أو منافسيها الطبيعيّين على البيئة والغذاء. لكن، بالنسبة للكلاب التي هجَّنها البشر، فقد قاموا هم بأنفسهم على رعايتها وتغذيتها والاعتناء بها، بحيث أنَّها تمكنت من البقاء، رغم أنها لن تعيش إلا أياماً قليلةً في البرية.

صَنَعَ البشر هذه السُّلالة من الكلاب بالتهجين والانتقاء الصناعيّ، لكن وبسبب شكلها الطويل غير الطبيعيّ، فهي تُعاني من مساكل مزمنةٍ في عمودها فقريّ.
خاتمة:
مع أنَّ هذه التجارب مجملها فاشلةٌ ونتجت عنها العديد من النتائج غير المحمودة، إلا أنَّها تثبت أنَّه بقدرٍ معيَّن من العلم، فإنَّ صنع سلالات جديدةٍ من الكائنات الحيَّة أمرٌ ممكن. ميزة هذه التجارب أنَّها سرَّعت عملية الانتقاء الطبيعي الأصليَّة، بحيث أثبتت لنا – لو بأسلوبٍ أقلَّ إتقاناً – أنَّ هذه الآلية يمكن أن تعمل بالفعل، وأنها بالحقيقة قادرةٌ فعلاً على صنع كائنات جديدة. فإذا كانت بضع مئات من السنين من تهجين البشر للكلاب كافيةً لصنع كلُّ أنواع الكلاب هذه، فليس من الغريب إذاً أن تكفي 500 مليون سنة لتطوُّر كل هذه الأنواع الفريدة والمدهشة من الكائنات الحيَّة على كوكبنا.
في نهاية الأمر… فإنَّه لا يوجد بديلٌ علميٌّ إلى يومنا هذا قادرٌ على أن يحلَّ محل نظريَّة التطور لتفسير نشأة الحياة، وبما أنَّ العلم قائمٌ على الإتيان بالنظريات المضادَّة والمكمِّلة لا النقض البحت، فإنَّه من الطبيعي أن تظل النظرية – مع أدلّتها الكثيرة – قائمةً شئنا أم أبينا، حتى مجيء ما يمكن أن يكمِّل نقصها أو يحلَّ محلَّها بشكلٍ أفضل بناءً على منهجيَّة علميَّة. على الأقلّ، إن كنَّا نحنُ – معشر العرب – مهتمّين جداً بالاستمرار بهوسنا في التنظير على التطوُّر وطرح أدلتنا المخضرمة التي تثبت فشله، فأقترح أن نعمل أولاً على الوصول إلى مرحلةٍ يمكننا أن نبني فيها علومنا ونظرياتنا الفيزيائية والكيميائية الخاصَّة التي يمكنها أن تنافس علوم الغرب، قبل أن نتباهى بتجاهلنا لنظرية آمن بها كلُّ علماء هذا الكوكب.
_______________
* الصدفة: ستجدني أتحدَّث في هذا المقال وأذكر عدَّة مرَّات عدم حدوث الصدف كحجَّة مع التطور. مع أنَّ معظم من يحاربون التطور يحاولون تصوير النظرية على أنَّها قائمةٌ على فكرة الصدفة والصدف، إلا أنَّ ذلك بالحقيقة غير صحيح بتاتاً. جوهر فكرة التطور، القائم على تفسير كيف تتحول الكائناتٌ الحيَّة من شكلٍ إلى آخر بأسلوبٍ طبيعي، مبني على أسسٍ علميَّة ومنهجية موضحة في هذا المقال، كالانتقاء الطبيعي والتكيف، وبالتالي فهو لا يعتمد على الصدفة بل على قواعد ثابتة. كما ترى.. جميع الأمثلة الحيَّة المذكورة في المقال تدعم ذلك، حيث أنَّ توزيع الكائنات الحية الجغرافي وتكيُّفها البيولوجي لا يتبعان الصدفة، بل يتبعان المبادئ العلمية لنظرية التطور.
Comments 6
هذا بحث أقرب أن يكون منه لتدوينة … مجهود رهيب جداً في البحث، تبقى أكبر اشكالية في نظرية التطور تفسيرها لخلق الإنسان، فمن المعروف ان هذه اكبر مشكلة في النظرية
شكراً لك، مع أنَّه في الحقيقة عمل لا يرقى للبحث، فهو محض تدوين لأفكار شخصية وقد لا يعرض جميع جوانب النظرية بالدرجة الكاملة. هناك مشاكل كثيرة في النظرية، منها مثلاً هذه وأيضاً كيفيَّة بدء الحياة الأولى على الأرض، لكنني واثقٌ من أن العلم سيتوصل مع الوقت إلى المزيد من الحلول والاكتشافات التي تجعل النظرية أكثر تماسكاً، أو على الأقل تستبدلها بأخرى أنجح منها
مقال صغير لشرح نظرية التطور لكنه غني بأفكاره المفيدة لعل بعض المشككين أن يدركوا مدى أهمية النظرية فإما أن يغنوا نظرية التطور أو يجدوا بديلاً علمياً…. شكر كبير لصاحب المقال..
Pingback: لعبة تطور الانسان – في العاب: العاب فلاش ٢٠١٦ جديدة
شكرا لك كنت من الجاهلين لهذه النظريه كنت ارفضها من متجه ديني لا اكثر ولكن انا اليو ساطالب من المسلمين ان يثبتوا خطا هذه النظريه وان يقدموا نظريه بديله لكم ومن يستطيع وهم الى الان يتحاربون باحقيه عمر او علي للخلافه .
Pingback: “قصصٌ ممتعةٌ من كتاب “أفكار العِلْم العَظيمة – مدونة عبَّاد ديرانية