منذ كنت في السادسة من عمري بالمدرسة الابتدائية، درست في كتبنا المدرسية أن أربعين بالمائة من سكان الوطن العربي أميُّون، لا يقرؤون ولا يكتبون حرفاً، رغم ذلك، فإنَّ حجم إدراكي لعظم هذه الكارثة ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين لم يكتمل إلا حديثاً جداً، وقد فاق مستواها كل توقعاتي.
قبل عامٍ من الآن، طرأ على ذهني بشكلٍ مفاجئ تساؤل حول حال الأمية في الوطن العربي. صحيح أنَّني كنت قد درست في المدرسة عن ذلك سابقاً، لكني تساءلت عمَّا إذا كان من الممكن أن يكون الوضع قد تغيَّر الآن، أو كيف كان في الماضي، وكيف يُتوَقَّع أن يصبح في المستقبل. أجريت بحثاً سريعاً عن الموضوع في ويكيبيديا العربيَّة، إلا إنَّني لم أجد شيئاً عن ذلك، وكذلك الحال في اللغات الأخرى، فبدأت العمل على كتابة مقالٍ يغطي هذا الموضوع المهم، وانطلاقاً من النتائج التي خرجت بها بعد بحثي الصَّغير هذا، جاءت فكرتي لكتابة هذه التدوينة.
العالم الحديث قائمٌ في أساسه على التقدم العلمي والتكنولوجي، وهذا التقدم هو الأساس الأول والأهم لأي نهضاتٍ اقتصادية وحضارية قد تتبعه وتترَّتب عليه في الدول المتقدمة، وبالمقام الأول، فإن حجر الأساس للتقدم العلمي هو التعليم. مع أنني لست من المعجبين على الإطلاق بالنظام التعليمي الحديث، إلا إنه لا يمكن نفي أن التعليم والثقافة هما شيئان أساسيَّيان جداً في عملية تقدم الأمم، ومن تجربتي فإنني أشعر على الدوام بأهمية السعة الثقافية في عمق التفكير والإدراك لأيّ إنسان أقابله.
لقد أدرك العرب منذ وقتٍ طويل أهمية التعليم، ولذلك نجد في التاريخ مئات الأقوال المأثورة والنصائح التي تشجّع على القراءة، فالقراءة وإن لم تكن في أساسها تمنح شيئاً، فهي لا تزال حتى الآن الوسيلة الأساسية لدى البشر لتناقل الثقافة وتوريثها، وهنا تكمن أهميَّتها الشديدة. والحال كذلك، فإن عجز أي إنسانٍ عن القراءة – حتى في عصرنا هذا – يعني تلقائياً حرمانه من أكثر من تسعين في المائة من مصادر التعلُّم الموجودة، وفضلاً عن القصور الفكري الذي سيترتَّب على ذلك، فإن إنساناً كهذا سيكون عاجزاً عن الحصول على أيّ مقامٍ ذي أهمية في المجتمع الحديث الذي يعطي أولوية هائلة للتعليم.
الجانب المؤسف في هذا الأمر، الذي لم نصل إليه بعد، هو حقيقة أن العرب فضلاً عن أن ثلثهم أميُّون، هم الآن – رسمياً – أكثر الأمم تخلفاً وأمية على وجه الأرض. قبل سنواتٍ قليلة، أعلنت منظمة اليونسكو العالمية (وهي المنظمة الثقافية التابعة للأمم المتحدة) أن المنطقة العربيَّة تجاوزت للمرة الأولى بمعدَّلات الأمية القارة الأفريقية، لتصبح أكثر المناطق أمية على الكوكب. أوروبا الشرقية، ووسط آسيا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، بل وحتى أمريكا الوسطى، هي كلَّها مناطق – رغم اعتبارها متخلّفة عن أوروبا الغربية وأمريكا – تجاوزتنا في محو الأمية بمسافاتٍ طويلة.
الواقع أنه حتى بابوا نيوغينيا، وهي دولة أدغالٍ في جنوب شرق آسيا لم يدخل أعماقها إنسانٌ أجنبي حتى النصف الثاني من القرن الماضي، والتي تعد إحدى أكثر البقاع بدائية وانعزالاً على الكرة الأرضية، حتى هذه باتت توازي عدداً من الدول العربية في أميَّتها. وأما منطقة جنوب القارة الأفريقية، والتي تشمل دولاً قد لا تكون سمعتَ بها أبداً، مثل ناميبيا وبوتسوانا وزمبابوي، فقد باتت توازي أرقى الدول العربية في مستويات محو الأمية. في أفريقيا الوسطى الغربية، حقَّقت غينيا الاستوائية والغابون وجمهورية الكونغو معدلات في الأمية أفضل من وسطيّ الوطن العربي. وأما دول وسط آسيا سيّئة السمعة (خصوصاً لأوضاعها السياسية والإنسانية المزرية)، فإنَّها تتجاوزنا بمراحل بعيدة، حيث اقتربت كثيراً من القضاء على الأمية بالكامل. وفي أمريكا اللاتينية النامية، فإنَّ أسوأ دولها – وهي البيرو الجبلية التي يملؤها البدو الرحَّل – تقترب من أنجح الدول العربية في محو الأمية. ولا يجب أن يفوتنا ذكر منغوليا، الصحراء الشاسعة وأرض البدو التي لم تعرف أي نهضةٍ حضارية منذ فجر الإنسانية، فحتى منغوليا هذه تمكَّنت من القضاء على الأمية منذ أمدٍ بعيد.
سأعترف أنّي أعمل الآن على تصوير الوضع بأسوأ صوره، كاستفزازٍ عاطفي، لأنه لا يحتمل السكوت عنه، لكن حتى لو تغاضينا عن هذا، فإنَّ الوضع ليس بأحسن كثيراً ممَّا أصفه. لأظهر لك القسم المليء من الكأس (ولن أقول النصف، لأنه بالتأكيد لا يعادل نصف الكأس بحال) فإنَّ الإحصاءات تقول أن نسبة الأمية في الوطن العربي كانت – قبل خمسين عاماً من الآن – أكثر من سبعين في المائة، بمعنى أن ربع العرب فقط، كانوا غير أميّين. منذ ذلك الوقت وهذه المأساة بحقّ الحضارة تشهد انخفاضاً مطّرداً، ففي الثمانينيات نزلت النسبة إلى ستين بالمائة، ثم خمسين بالمائة في التسعينيات، وأقلَّ من أربعين مع فجر القرن الحالي، وبحسب آخر إحصاءات المنظمة العربية للثقافة “الألكسو” (نظير الجامعة العربية لليونسكو) والتي أعلنت مطلع هذا العام، فإنَّ نسبة الأمية الآن بالوطن العربي تربو من 27%. حسناً، هل ذلك جيّد؟ بقدرٍ ما نعم، وبقدرٍ ما لا.
سنعود الآن إلى النصف الفارغ من الكأس، وهو حقيقة أنَّه منذ بدأ محو الأمية في البلاد العربيَّة قبل نصف قرنٍ من الآن، كانت معدَّلات الأمية العالمية بالفعل نصف معدلاتها في الوطن العربي فقط، وحتى العالم الثالث كان بالفعل يتجاوزنا بكثير. في سنة 1970، كانت نسبة الأمية عند العرب 73%، وكان المتوسّط العالمي 37%، ومتوسّط الدول النامية – التي تشمل بالفعل الوطن العربي! – 52%. وأما النسبة التي أعلنتها الألكسو حديثاً، والتي تبلغ 27%، فهي – رغم أنها تشهد على التقدم الهائل الذي حقَّقناه – ليست برَّاقة كثيراً عندما نعرف أنها نفس الوسطيّ الذي حقَّقته الدول النامية في العالم في منتصف الثمانينيات، والذي تجاوزَته بالطبع بمسافة هائلةٍ الآن، تعادل حوالي النصف.
منذ هذه اللحظة، فإن أمريكا وكندا، وكامل القارة الأوروبية (باستثناءات معدودة)، وكامل القوقاز (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان) ووسط آسيا (باستثناء أوزبكستان) ومنغوليا واليابان وكوريا الجنوبية وإسرائيل، وأستراليا ونيوزيلندا، وعدة دولٍ من أمريكا اللاتينية (هي الأوروغوي والأرجنتين وسورينام وغويانا الفرنسية) إضافةً إلى كوبا، كلَّها دولٌ – تعادل ثلث دول العالم تقريباً – قد غادرت بالفعل وبصورةٍ نهائية عصر الأمية. وهو أمر لم تحقٌّه إلى الآن ولا دولةٍ عربيَّةٍ واحدة.
لنَعُود إلى القسم المليء من الكأس، فقد أنجزت الدول العربية تقدماً هائلاً في حركة محو الأمية منذ السبعينيات، فانخفضت معدلات الأمية في المنطقة منذ ذلك الحين إلى أقلَّ من النصف، ولا زالت الجهود جارية على وتيرة كبيرة. تشير التقديرات الحالية إلى أنه بحلول عام 2015 (خلال عامين من الآن) ستغادر ثلث الدول العربية عصر الأمية، ومع أنَّ الدول السبعة هذه كلها دول صغيرة وسكانها ليسوا كثراً، وبالتالي فإنَّها لن تحدث أثراً كبيراً على نسبة الأمية الكلية بالمنطقة، فإن ذلك لا ينفي بحالٍ حجم هذا الإنجاز بعد عقودٍ من الأمية. لكن ما يجب أن لا يغيب عن أذهاننا ولا يثنينا عن تسريع هذه الجهود أكثر، هو أنَّ حركة محو الأمية في الوطن العربي مقارنةً بالعالم هي في تباطئٍ لا تسارع، ولولا ذلك لما تجاوزتنا القارة الأفريقية في محو الأمية، وذلك لم يحصل إلا قبل خمس سنوات.
إن كانت الأمور ستبقى على هذه الحال، فإنَّ خروج العرب من ظلمات الأمية سيستغرق أربعين عاماً، وبحلول ذلك الوقت سيكونون آخر أمةٍ على وجه الأرض تخرج من عصر الظَّلام هذا، وسيكون اللَّحاق بالآخرين أصعب بكثيرٍ ممَّا هو الآن. وإن لم تكن هناك مطالبة جادَّة للحكومات وضغطٌ لبدء جهدٍ حقيقيّ وحاسمٍ في هذا المجال، فإنني أشكُّ فعلاً بأن أي جهةٍ رسمية ستهتمُّ به عمَّا قريب.