في هذا الوقت، ومع اقتراب مواعيد الامتحانات الدراسية في أغلب الدول العربية، فإني أراها مناسبةً جيِّدةً لإلقاء نظرةٍ أخرى على أنظمة التعليم المتبعة في دولنا، أو حتى خارج حدود وطننا العربيّ. ولقد بدأت كتابة هذه الخاطرة بإسهاب للحديث عن هذا الموضوع، فلم أتدارك نفسي إلا وبين يديَّ عدة صفحات مُطوَّلة عن أنظمة التعليم العالمية، لذلك فقد خزَّنتها الآن، وقد أفكِّر بنشرها لاحقاً، وأما الآن، فسأكتفي بهذه الخاطرة القصيرة، من وحي الواقع الدراسي الذي أمرُّ به في الفترة الأخيرة.
في وقتنا الحاضر، تنتهج أغلب أنظمة التعليم في البلاد العربية سياسة “الحشو المستطير”، حيث تتنافس المدارس على حشو رؤوس الطلاب المساكين بأكبر كم ممكن من البيانات والمعلومات في أقصر فترة زمنية ممكنة، حتى إذا صاروا قادرين على تكرير الكتاب من أوله إلى آخره دفعةً واحدةً كالببغاوات… صفَّق الأساتذة وهلَّلوا، وأصبحوا مرتاحين إلى أن طلابهم باتوا مؤهَّلين لنيل شهادة التخرج، أو شهادة غينيس في الحفظ.
الآن، عندي في منهج الثانوية خمسة عشر مادة في مختلف المجالات، منها مادة الكيمياء. يتألف كتاب الكيمياء من 200 صفحة، تقريباً نصف هذه الصفحات أو ثلاثة أرباعها تتحدث عن مدارات الإلكترونات الذرية. يدرسوننا تصنيف هذه المدارات بحسب مستوياتها، ثم أنواعها وأشكالها، وما ترتيب الأنواع في كل مستوى، وما الروابط التي تتشكل بين هذه الإلكترونات، والفروقات بين روابط سيجما وباي والروابط التساهمية والقطبية والفلزية ووو…. والسؤال، لو – فرضاً – كنت أنا أنوي دراسة الطبّ بعد سنتين في الجامعة، متى بالله سأحتاج في كل حياتي إلى معرفة ترتيب وأنواع مدارات الإلكترونات في الذرة!!
لماذا كل هذا الحشو وكل هذه التفاصيل؟ الواقع أن تسعين في المائة من طلاب الثانوية لا يحتاج شيئاً ممَّا يدرسه بالمدرسة فيما بعد خلال حياته. أصلاً بحلول عمر المرحلة الثانوية، يفترض أن يكون للطالب حقّ اختيار تخصّصه وبدء دراسته، تخصصات الثانوية – علاوةً على أنها تأتي في مرحلةٍ متأخرة جداً – عامة جداً جداً، علمي وأدبي.. حسناً، ماذا لو أردت دراسة المحاسبة! لماذا على المحاسب أن يعرف كل شيء عن مدارات الإلكترونات الذرية وكثيرات الحدود التربيعية الرياضية وتشريح أرجل الضفادع والنسب المئوية للمعادن الفلزية في باطن الأرض؟ هذان المجالان التقليديَّان عامَّان جداً، كان من الأكثر منطقية بكثير بدلاً من اتّباع سياسة الحشو المركز 10 سنوات قبل إتاحة التخصصات على أي مستوى… أن يسمح للطلاب بالاختيار بين العلمي والأدبي منذ سنتهم الدراسية الثامنة أو التاسعة على الأكثر، عوضاً عن الحادية عشرة، كما أنه يمكن بسهولةٍ اختصار جميع موادّهم الدراسية إلى النصف كماً ونوعاً، لأنها تدخل في تفاصيل اختصاصية من الأدهى أن تدرس في الجامعة لا في المدرسة.
ثم بعد سنتي العلمي والأدبي، يفترض أن يتاح التخصّص للطلاب في آخر سنتين دراسيَّتين على مستوى أعلى، أو حتى أن ينتقلوا فوراً إلى الجامعات. فتأخير المرحلة الجامعية كبير جداً وغير ضروريّ أو مبرر، ففي حال أراد أحدهم مثلاً إكمال الطريق إلى آخره حتى الدكتوراة… فهو لن ينتهي على أنظمتنا الحالية إلا وعمره ثلاثون عاماً، أي تكون نصف حياته المنتجة قد قضيت في الدراسة! فكِّروا بكم الأعمار الضائعة، فكِّروا بالأيدي العاملة المستهلكة. كل طالبٍ في العالم هو عالة على مجتمعه حتى ينهي تحصيله الدراسي، وكلَّما استطالت المراحل الدراسية أكثر كلَّما قلَّت الأيدي العاملة في المجتمع وأهدرت الطاقات الشابة في الفصول الدراسية، ومن غير ريبٍ فإنَّ هذا يسبب خسائر اقتصادية هائلة، لو تمَّ تبكير التخرج سنةً أو سنتين.. تخيَّلوا كم مليون سنة من الإنتاجية سنكسب، وكم سيتطور الاقتصاد، هناك ملايين الطلاب المحجوزين في الفصول الدراسية.. وإن أطلقوا منها فإنهم سينخرطون في عملية بناء المجتمع وتطويره، وكلَّما طالت دراستهم قلت استفادتنا منهم.
قد تكون لي عودة أخرى في هذا الموضوع… لأنه من المواضيع التي تثير اهتمامي كثيراً والتي أعتقد أنها بحاجةٍ إلى إعادة هيكلة جذرية على المستويين العربيّ والعالميّ، لكن أعتقد أن هذه الخاطرة تكفي إلى الآن.. ولنتمنَّى ختاماً مستقبلاً أفضل للتعليم في وطننا العربي والعالم أجمع.