حينما يمر أب أو أم بجانب فتى يلعب لعبة فيديو أو يدردش مع أصدقائه أو يشاهد فلماً فإن أحد أكثر ردود الفعل المتوقعة أن يتلقّى الفتى تأنيباً في أسس “تضييع الوقت” وحسن التخطيط للمستقبل، وقد يوحي رد الفعل الشائع هذا بأن “الوقت” يعتبرُ كنزاً ثميناً في الثقافة الاجتماعية العربية أوبأنه من غير المقبول التكاسل عن العمل الجادّ في هذه الثقافة، وهي فكرة مضحكة بعض الشيء إن قيست بالاحترام القليل الذي ينالهُ الوقت -عملياً- في ثقافتنا، بل إنَّ مجتمعنا قد يكون في الواقع عدائياً نحو استغلال الوقت والإنجاز والإنتاجية ويُشجّع على مقاومة كُلّ ذلك بالكسل والبلادة. فهل هذا التناقض بين التطبيق والتنظير تفسير؟
الحلم العربي
قد تبدو فكرة “الوقت” عملية جداً، إذ ربما تظنّ أن معظم الناس يتفقون على كيفية “استغلال الوقت” والاستفادة منه (بالعمل مثلاً) أو كيفية “إضاعته” (باللعب مثلاً)، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. بل من الأيسر أن ننظر إلى الوقت على أنه فكرة ثقافية: فما يعتبر استفادةً من الوقت في أحد البلدان أو المجتمعات قد يكون إهداراً تاماً لهُ في بلدٍ أو مكانٍ آخر، ويمكننا إثبات ذلك بمحاججة بسيطة. وجوهر هذه المحاججة هو أن كيفية استغلال الوقت قائمةٌ على ما ينظرُ إليه مجتمعك وثقافتك بعين الرّضى، أو ما ينظرُ إليه هذا المجتمع بعين الازدراء والاستخفاف.
من المحتمل أنك سمعت من قبل عن “الحلم الأمريكي“، وهو مصطلح مشهورٌ يصفُ تطلّعات الشعب الأمريكي و”روحه الوطنية”، وقد نستشفّ من هذا الحلم صورة الحياة الرغيدة التي يتطلَّع إليها الأمريكيون، وهي (حسب إعلان الاستقلال الوطني): «حياة أفضل وأكثر ثراء وسعادة». وهذه كلماتٌ برَّاقة كثيرةٌ نستخلصُ منها أن جوهر طموح الإنسان الأمريكي هو كثرة المال والثروة.

ولو نظرنا إلى واقع المجتمع الغربي نفهم هذا الواقع أكثر، إذ نَجِدُ على رأس قوائم المشاهير ممثلين ومغنين ورياضيين، وكذلك نجد موسيقيّين وأدباء ومديري شركات ورواد أعمال. ولو نظرنا إلى المجتمعات الغربية بعمومها، فقد نَجِدُ أنها تُقدِّرُ النجاح المهني والإبداعي وما يأتي معه من نجاح مادي، فمن يتميَّزُ في عمله أو في مهارةٍ من المهارات أو يكسبُ كثيراً من المال يعتبر شخصاً ناجحاً، ومن يُكرِّس وقته لدخول هذه المهن يعتبر شخصاً يجيد استغلال وقته. وربما يبدو -للوهلة الأولى- أن هذا أمور يُقدِّرها المجتمع العربي عموماً، ولعلَّها ترسمُ صورة “الحلم العربي”، على أن ذلك ليس صحيحاً تماماً.
يزعمُ الأوبريت المشهور أن الحلم العربي هو “حضن يُضِمِّنا كُلِّنا”، أو أنه -بمعنى آخر- الوحدة العربية، لكننا قد لا نَجِدُ أدلّة كثيرة على ذلك في الواقع العربي. ولا شك بأننا لو بحثنا بين المشاهير العرب لوجدنا بينهم كثيراً من المغنين والرياضيين والممثلين، وكذلك الأباء ورواد الأعمال وغيرهم، على أنه من السطحية أن نقفزَ من هذا الاستنتاج إلى أن الثقافة العربية تطمحُ إلى “النجاح المهني والإبداعي”، بل لعلَّ الحال هي عكس ذلك كليةً.
قُدوة النجاح
ليست العبرة فيمن يقتدي به المجتمع بالمشاهير وحدهم، فكثيرٌ من نماذج “القدوة” و”النجاح” قد تكون شخصيات متواضعة جداً (مثلاً: “انظر إلى ابن فلانٍ كيف يتألَّقُ في كذا وكذا”)، وقد تُعبِّرُ هذه الأمثلة البسيطة أكثر عمَّا يرضى عنه المجتمع. ففي الحياة اليومية ببيت أو عائلة عربية نموذجية، من الصعب أن نتخيَّل أن يتلقّى شاب أو شابة تشجيعاً لدخول “مهنة” الرقص أو الغناء أو التمثيل، وهو نفورٌ تراه العائلة الأمريكية غريباً، إذ ربّما يُكرِّس أبناؤها عشرات الساعات أسبوعياً لهذه المهارات منذ طفولتهم.
وقد يبدو من البديهي أن مهناً مثل “الرقص” و”الغناء” غير مقبولةٍ في المجتمع العربي لأنها لا تعتبر “محافظة”، على أن العائلة العربية النموذجية قد لا تُشجِّع -كذلك- تكريس الوقت لمهنة في الأدب ولا في ريادة الأعمال ولا العلوم التجريدية، فمثلاً، لن يقبل الأبوان العربيَّان المعتادان -على الأرجح- بأن يتفرَّغ ابنهما لـ”تأليف الروايات”، ومن المستبعد أن يفتخرا بأن يعمل فيزيائياً أو صحفياً (لو اتخذ هذه مهناً له) مقارنة بابن يمتهنُ الطبّ.

وهذا يعني أن المجتمع العربي لا يُقدِّر -بالضرورة- النجاح المهني ولا يعتبره استثماراً صالحاً للوقت إلا في سياق مهنٍ معيّنة. ولعلَّنا نستنتج من ذلك أن معيار النجاح يقتربُ أكثر من النجاح المادي والمالي، على أن ذلك غير صحيحٍ منطقياً: فكثيرٌ من المهن التي سبق ذكرها (كالغناء مثلاً) قد تكون مربحةً جداً، على أن ذلك ليس كفيلاً بأن يجعلها مهناً مقبولة ولا استغلالاً صالحاً للوقت. فما هو معيار الرضى في عين هذا المجتمع إذاً؟
ما قد نزعُمُه هو أن معيار النجاح الأول في الثقافة العربية هو النجاح الاجتماعي، وهو يتقاطعُ في بعضٍ من جوانبه -بلا ريب- مع النجاح المهني الذي تتطلَّع إليه الثقافة الغربية. على أن جوهره مختلفٌ جداً.
مجتمعات فرديّة وجمعيّة
في عام 1965، وظَّفت شركة IBM (المشهورة بصناعة قطع للحاسوب) عالم الاجتماع الهولندي “غيرت هوفستيد” رئيساً لقسم يتخصّص بإجراء أبحاث على موظفي الشركة، والتي تتميَّزُ بكثرة الأماكن الجغرافية والسياقات الثقافية التي تعملُ فيها. أجرى هوفستيد بحثاً موسعاً في أكثر من خمسين دولة أسَّس بناءً عليه “نظرية الأبعاد الثقافية“، وهي نظرية تَصِفُ تأثير الثقافة على سلوك الناس اجتماعياً. وكان أحد العوامل الأربعة التي تؤدِّي لاختلاف الثقافات -بحسب بحثه- توجّه المجتمع نحو “الفردية” أو “الجمعية”.
ليست لهذين المصطلحين معانٍ معقّدة جداً، لكن تترتّب عليهما أمورٌ كثيرة. فعندما درس هوفستيد بلدان وشعوب العالم أمكنه أن يُصنِّفَ معظمها بسهولة إلى ثقافات تتمحورُ حول “الفَرْد” أو حول “الجماعة”. ومعظم بلدان العالم الغربي هي ثقافات فردية، إذ إن كلّ فردٍ له استقلاليته وتُشجِّعهُ ثقافته على التركيز على نفسه وتطوير ذاته، ومن الطبيعي -إذاً- أن تُقدِّر هذه الثقافات النجاح المهني الذي يصل فيه الفرد أبهى صوره. على أن تصنيف البلدان العربية معاكسٌ تماماً.

تنتمي جميع المجتمعات العربية إلى فئة الثقافات الجمعية، أي أنها تعتبرُ المجتمع وحدةً مترابطة لها الدور الأول في حياة الإنسان. ولهذا فإن العلاقات العائلية والاجتماعية والإنسانية لها الدور الأكبر في الحياة اليومية بالمجتمع العربي، ودور الإنسان في هذا المجتمع وحضوره وبهاء صورته هو ما يعطيه تقديره، إذ إن الإنسان العربي الناجح هو الإنسان الذي يحظى باحترام المجتمع وبسمعة طيّبة فيه وبعلاقاتٍ قوية مع باقي الناس. ولا شك بأن التفوّق المهني والمادي يساعدُ على نَيْل هذه السّمعة، لكنه ليس إلا جزءاً صغيراً منها.
تُفسِّرُ لنا هذه النتيجة لماذا تُخصِّص البيوت العربية أفخم وأثمن غرفها للضيوف والزوار، ولماذا أكثر ما يشغلُ اهتمام الوالدين في أبنائهم وبناتهم هو حسن تصرّفهم أمام الناس، ولماذا تعتبر المشاكل الإنسانية والقيل والقال محوراً أساسية للحياة في مجتمعنا. على أن هذه النتيجة تُقدِّم لنا -كذلك- إجابة مهمة على السؤال الذي بدأنا فيه، وهو سؤال بخصوص الاستخدام الغريب لجملة “تضييع الوقت” في الثقافة العربية.
الوقت ليس من ذهب
وإذا ما اعتمدنا على ما رأيناه من أسباب للنجاح في كل ثقافة نفهمُ أن “تضييع الوقت” ليست جملة موضوعية ذات معنى ثابت، بل هي فكرة يختلفُ معناها في كلّ ثقافة. ونستطيع الآن أن نرجع إلى المثال العابر الذي افتُتِحَ به هذا المقال وننظر إليه بعدسةٍ جديدةٍ تماماً: فالسبب الذي يجعلُ “ألعاب الفيديو” مضيعةً للوقت في نظر الأبوين العربيَّيْن هو أنها نشاط فردي لا يخدمُ صورة الإنسان الاجتماعية، بل يضرُّ بها. والوالدان اللذان ينتقدان هذه الألعاب قد يقضيان لاحقاً ساعات بطولها على برامج المراسلات والشبكات الاجتماعية وفي زيارات عائلية تمتدُّ أمسياتٍ كاملة، ولا تعتبرُ أي من هذه الأمور مشكلةً على صعيد الوقت لأنها -بنظر ثقافتهم- تخدِمُ علاقات الإنسان وحضوره في المجتمع.

ويغلبُ على الظن أن ألعاب الفيديو تعتبرُ مضيعةً للوقت في الثقافة الغربية كذلك، لكن الأسباب مختلفة. فالثقافة الغربية تُثمِّنُ نجاح الفرد في عمله ودراسته ومهنته وقدراته، وألعاب الفيديو لا تخدمُ أياً من هذه الأمور، ولا تخدمها -كذلك- العلاقات الإنسانية والعائلية، فمثل هذه العلاقات تأتي في منزلة التزامات أو نشاطات ترويحية بالحدِّ الأدنى لا كأولوية من أولويات الحياة.
إذاً، حينما يقول الإنسان الغربي أن “الوقت من ذهب” فهو يعني كلامه حرفياً، فهو يقيسُ وقته بقيمته المادية والمهنية والفردية، ويسأل عن “الوقت” الذي سوف تستغرقه أي مهمة قبل أن ينخرط فيها، حتى ولو كانت هذه المهمة زيارةً لصديق. على أن الوقت ليس من ذهب في الثقافة العربية، فهو ليس ذا قيمةٍ مادية أو حياتية وإنما وُجِدَ لصرفه مع الناس لا أكثر. وتترتَّبُ على هذه الفكرة نتيجة مخيفة جداً، فالفتية والفتيان ينشؤون في المجتمع العربي وهم لا يعبؤون بتكريس وقتهم لتحقيق أي إنجازات حياتية حقيقية، فالإنجازات بالنسبة لهُم لا تخرجُ عن نطاقها الاجتماعي.

ولعلَّ هؤلاء الفتية والمراهقين يرتدعون حيناً على درجاتهم الدراسية أو على اختياراتهم المهنية لأنها قد تؤثّر على صورتهم أمام الآخرين، لكن حياتهم الدراسية والمهنية -بعمومها- ليست إلا امتداداً لحياتهم الاجتماعية: فنجاحهم في الجامعة يتمثَّلًُ بكثرة أصدقائهم وشهرتهم، وفي العمل بكثرة حديثهم مع المدير والرفقة التي ينالونها في الاستراحات. ولا ضرورة -بعد ذلك- لماهية العمل الذي يقومون به ولا للأمور التي يتعلمونها، فلا شيء من ذلك يمسُّ صورتهم أمام المجتمع. وعلى هذا تُفسَّرُ شتى أنواع الكسل والبلادة في العالم العربي.
وُضِعَت نظرية الأبعاد الثقافية أساساً لفهم الثقافات الأخرى لا لانتقادها، لكن هذه النظرية ساعدت على فهم الإشكالات التي قد تؤدِّي إليها أي ثقافة من الثقافات (مثل حوادث الطيران المميتة في كوريا). ومخرجات الثقافة العربية غير المُبهْرة حالياً، على أي صعيد من الأصعدة، تشيرُ إلى وجود إشكالات كثيرةٍ قد تساعدُ هذه النظرية -وغيرها- في فهمها ومحاولة حلّها، وهو حلّ يجب أن يبدأ من كل شخص وفرد. وحتى ذلك الحين، ليس لنا إلا أن نرجو أن تكتسب جملة “تضييع الوقت” في الثقافة العربية معنى يعطي الوقت قيمة.