أعلنت مُدرّسة المادة في ختام المحاضرة، “والآن سوف أعطيكُم فرضاً منزلياً للحصَّة القادمة”، فارتسمت التعاسة على وُجوه جميع الطلاّب، وامتلأت القاعة – كالعادة – بأصوات التأفّف والتذمّر المكتومة أو المجهورة، ليبدأ بعدها الطلاب بتبادُل الشكاوى المسموعة مع زملائهم. تكرَّر هذا الموقفُ (الذي حدث بالأمس) أمامي عدداً هائلاً من المرَّات مُنذ أن دخلتُ الجامعة لأوَّل مرة، قبل سبعة شهور، ولا زال يحدثُ بصورة دورية في مُعظم محاضراتي.
رد الفعل الدراماتيكي هذا ليس إلا جانباً بسيطاً ممَّا أُسَمِّيه عقلية الطالب الجامعي التعيس في الأردن، حيث يجبُ على كلّ شاب أو فتاة في المرحلة الجامعية بهذه البلاد قضاءُ يومه الدراسي كاملاً بالتباكي (مع جميع أصدقائه ومعارفه) على صعوبات دراسته وأساتذته ومآسيه اللانهائية، وكيف أنَّه كان يُفضّل البقاء في المدرسة على القُدُوم إلى هذا المكان الجحيمي، وعلى الأرجح أنَّ هذا – أيضاً – سببٌ لا يُستهان به في عدم كفاءة الطلاب ولا خرِّيجي الجامعات الأردنية والعربية عموماً.
عقلية الطالب الجامعي
لعلَّ أساس المُشكلة يكمنُ بما قبل الجامعة، فمُعظم الشباب العاديين يدخُلونَ الجامعة وهم لم يتخرَّجُوا من المدرسة سوى قبل شهورٍ أو أسابيع، ولهذا يبدو أنهم يواجهون صعوبةً حقيقيَّة في تجاوُز عقلية أولاد المدارس التي كانوا مُعتادين عليها سابقاً. فهُم لا يريدون سوى الجلوس إلى المقاعد والدردشة مع أصدقائهم أو العبث بهواتفهم حتى انتهاء الدّروس، ويعتقدُون أنَّ لهُم الحق الكامل – بعد إمضاء جميع دروسهم بهذه الطريقة – بالدّخول إلى الامتحانات والحُصول على أعلى العلامات وأروع المُعدّلات، ولو فشلوا بذلك، فاللَّومُ لا يُمكن أن يكون عليهم، بل هو على صعوبة الامتحان وعلى الأستاذ الشرير.
في بعض المواد التي درستُها مررتُ على أساتذة لطيفين جداً بحيثُ أنهم كانوا يحاولون الرّضوخ لمطالب طلابهم مرَّة بعد الأخرى. في مادة مدخل علم اللغويات، على سبيل المثال، استمرَّت مُدرِّستُنا بتقليص مادة الامتحان النهائي – تنازُلاً عند شكاوى الطلاب – حتى تقزَّمَت من 13 فصلاً في الكتاب الكامل إلى ثلاثة فُصولٍ فحسب، لكن بعد كلّ إعلانٍ عن تقليص مادة الامتحان، لم يتغيَّر شيء. الشكاوى والتذمّر والتأفّف ظلَّت تملأ المكان.
المُشكلة هي أن جميع طلاب هذا البلد، أو السواد الأعظم منهُم، يدخلُون الجامعات وهُم قد عقدوا نيَّة مُسبقة بعدم الرغبة ببذل أدنى مقدارٍ من الجُهْد في أي شيء، حقيقةً، فهُم مهيّئون نفسياً وذهنياً لأن الغاية الوحيدة من وُجودهم في الحياة هي القدوم إلى الجامعة وقت بداية الدوام والانصراف عندَ نهايته، ولا شيء سوى ذلك. مُعظَم الطلاب لا يهتمّون بحُضور دروسهم إلا لو كان المُدرّس يرصدُ “الحضور والغياب”، ولا يرونَ أنَّ من حقِّ المُدرّس تكليفهم بأيِّ نوعٍ من المهام عدا الجُلُوس والاستماع لكلامه، ولو تجرَّأ على غير ذلك فهو مخلوقٌ شريرٌ يُريد إهدار أوقاتهم الثَّمينة بواجباتٍ عديمة الفائدة.
ماذا عن التعلّم؟
فكرةُ الرغبة بدُخُول الجامعات والخروج منها دون بذل أيّ نوع من الجهد غريبةٌ فعلاً، لأنَّ الغرض من وُجود هذه المُؤسَّسة يُفتَرض أن يكون التعلّم، وهو ليس أمراً سهلاً. مُجرَّد كونِ الشَّخص طالباً جامعياً لا يعني أنَّ غايتهُ بالحياة هي الاستماع للمحاضرات، بل عليه أن يُتعِب نفسه بفهم واستيعاب المادة، ومن ثم التمرُّن عليها مراراً بالواجبات، أو المهام الجماعية، أو الاختبارات القصيرة. صدّقني، المُدرِّس ليس موجوداً لإعطائك العلامة الذهبية A ومن ثمَّ الانصراف عن حياتك للأبد، بل هدفهُ أن يُلقِّنك شيئاً مُفيداً. يُفترض أن الأمرَ منطقي، لكنَّ مُحاولة إقناع الطلاب الآخرين به تبدُو مستحيلة.
أكثر شخصٍ أفادني في حياتي العمليَّة مُنذ دخولي للجامعة هو مُدرّسة أمريكية، اسمُها Addie Leak، أعطتني مادة الكتابة في فصلي الأول بالجامعة، وهي أيضاً أكثرُ مُدرّسة أرهقتني خلال سنتي الدراسية. كان أغلبُ الطلاب يكرهُونها لأنها يجبُ أن تُعطينا واجباً من عدَّة صفحات بعد كلِّ محاضرة، كما أنها كانت تحب الامتحانات المُفاجئة، وكانت تُصحِّح جميع الأوراق بدقَّة شديدة. ومع أنَّ مُتابعة المادة معها تطلَّبت الكثير من الوقت والإرهاق، إلا أنَّني – صدقاً – لا زلتُ أستفيد مما علَّمتني إيَّاهُ في كلِّ عبارةٍ أكتبها باللغة الإنكليزية. لا يُمكنني وصفُ كمِّ الفائدة التي حصلتُ عليها من تلك المادة.
وبالمقابل، فإنَّ الأساتذة الذين لم يعطوني واجباتٍ واختباراتٍ بما يكفي خرجتُ من محاضراتهم دُون فائدةٍ حقيقيَّة تُذكَر، وبالكاد تخطرُ على بالي الأمور التي كانوا يتحدثونَ عنها في أوقات المحاضرات.
ماذا لو كان هذا كُلّه محض تحدٍّ؟
قضيتُ معظم الأيام الأخيرة من حياتي وأنا منهمكٌ بقراءة رواية خيالٍ علمي مُمتعة جداً، اسمها Ender’s Game. تتحدَّثُ عن القصة عن عالمٍ مُستقبليّ تواجه فيه البشريَّة خطرَ الهلاك أمام غزوٍ لمخلوقاتٍ فضائية من مجرَّة أخرى، ولإنقاذ البشرية من الفناء، يُقرِّر تحالفٌ عسكريٌّ عالميٌّ إنشاء مدرسةٍ للأطفال الصغار لتدريبهم على الفُنون القتالية. الهدفُ الحقيقي من هذه المدرسة ليس تدريب الجنود، بل الحُصول على إنسانٍ واحدٍ مُميِّز جداً: شخصٍ واحدٍ عبقريّ وموهوب بما يَكفي ليستطيع قيادة جيوش البشر إلى نصرٍ مُوزَّرٍ أمام الغزاة الفضائيِّين. هذا الشخص هو بطلُ القصة، Ender Wiggin، ولكن كيفَ يُمكن أن يجعلوهُ مستعداً لما سيأتي؟ الأمرُ بسيط، فهم يضعُون أمامه أصعب العقبات وأكثرها استحالة، ويُراقبونه بصمتٍ مُنتظرين أن يتعلَّم طريقةً للتعامُل معها اعتماداً على نفسه.
لو كنتَ من مُحبّي الأنمي وأفلام الأكشن، فأنتَ على الأرجح شاهدت هذا مرَّات عديدة أيضاً. غالباً ما يكونُ أبطال القصص الرائعين شخصيات كادحة تضطرُّ لخوض التحديات والتعلّم منها مراراً قبل النجاح. والحقيقة أنَّ هذه الفكرة ليست سوى استعارةٍ من الحياة الواقعية، فأيّ إنسانٍ يسعى للتحسّن عليه أن يواجِهَ العقبات، كيف يُمكن للإنسان اكتسابُ أيّ شيءٍ مُميَّز دُون ذلك؟
الأمرُ بديهيٌّ جداً. لو كنتَ تُريد أن تتميَّز عن غيرك، فعليكَ اكتسابُ مهاراتٍ خاصَّة بك، وكما توصَّلتُ من تدوينةٍ طويلةٍ جداً لي بالسابق، فإنَّه لا يُمكن لأي إنسان – مهما كان موهوباً – أن يكتسبَ مهارة دون تدريب، فحتى ولو كانت الموهبة الطبيعية موجودة لديك فإنَّ عليكَ بذل الكثير من الجُهْد لتطويرها والاستفادة منها.
بمُجرّد أن تبدأ بالتفكير بهذه الطريقة، ستشعرُ بإحساس أفضل بكثير نحو دراستك. فأنتَ لا تخوضُ عقاباً جحيمياً لتدمير حياتك ومُعدّلك الدراسي، بل كلُّ ما في الأمر أنَّ أمامَك عقباتٍ عليك تجاوُزها لتُطوّر من نفسك، وفي النهاية، لو كنتَ فعلاً تحبّ اختصاصك وترغبُ بالنّجاح فيه، فإنَّ ما من شيءٍ سيُساعدك مثل أخذ منهجك الجامعي بجديَّة.
Comments 4
أنا أعتبر أن التجربة التي مررت بها تجربتك الشخصية ولا يمكن إعتبارها كتحليل لكل ما يحدث في الجامعة
أما بخصوص أن التغير في نمط التعليم من المدرسة إلى الجامعة فقد يعتبر سببا بسيطا قفط
ما نراه الآن في جامعاتنا العربية هو أنها أصبحت مركزا لإذلال الطلاب و التحقير و التقليل من مهاراتهم
فتجد أن الددكتور و الأستاذ يحاول قدر الإمكان أن يبدو أكثر الناس علما و يرفض كل الرفض أن يظهر أحد الطلاب أكثر منه علما في أي مجال
كذلك السيطرة الكاملة على الطالب من طرف الأساتذة باستغلال النقاط كوسيلة ضغط على الطالب فمن يخالف سيعاقب و هذا ما يدفع الطالب إلى السعي وراء النقطة و اهمال التعلم
أظن أن الأمر يختلفُ فعلاً من الجامعة للأخرى، وبين الكلية والكلية أيضاً. أعرفُ أشخاصاً – أثقُ بهم – في نفس جامعتي ويمرّون بتجارب غير سارة أبداً مع أساتذتهم. لكن في كليتي، أجدُ إجمالاً أن معظم المدرسين ممتازون جداً ويتمنّون فعلاً نقل شيء من معرفتهم للطلاب، ولكن التلاميذ لا يهتمُّون لشيءٍ من كلام الأستاذ ولا يأبهون لأمر من دراستهم سوى العلامات. في كل الأحوال، لو كان لديك مُدرّسون سيئون فذلك لا يمنع أن تُغيّر ما بنفسك قبل أن تطالب غيرك بهذا التغيير
مقال رائع و مؤثر شكرا جزيلا جاء في وقته
لا شي يأتي بسهوله