عندما نشرتُ تدوينتي السابقة التي تحدَّثتُ فيها عن حصيلتي من معرض الكتاب الدولي في عمّان (الأردن)، لم أكُن قد زرت المعرض سوى مرّة واحدة، وقد ذهبت بعدها عدّة مرات لأحصلَ لنفسي على كتبٍ أخرى، وأروع ما جئتُ به من تلك الزيارات كان هذا الكتاب عن نظرية الألعاب. كنت أسمع عن هذه النظرية من أخي، الذي درس علم الاقتصاد في ماليزيا، مُنذ سنوات كثيرة، وانتباتني رغبة شديدة بأن أتعرَّفَ عليها أكثر، وكانت هذه أول مرة أُقابل فيها كتاباً مُخصَّصاً للحديث عنها.
ليسَ ذلك فحسب، بل هذا الكتاب هو جزءٌ من سلسلة جامعة أكسفُورد المشهورة المُسمّاة “مُقدّمات قصيرة جداً“، وهي مجموعة من 425 كتاباً صُمّمت لتُقدّم للقراء نبذاتٍ مُختصرة وسهلة عن كلّ المواضيع الأساسية في العالم، وكتبها كُلّها خبراءٌ ذوُو خبرة طويلة جداً في مجالاتهم. ومُؤلّف هذا الكتاب تحديداً اسمُه كين بينمور، وهو أحدُ مُؤسّسي نظرية الألعاب الحديثة، وصاحبُ نظرية اقتصادية مُهمّة تسمى نظريّة المساومة. لمن يُريد، الكتاب متاحٌ مجاناً بترجمته العربيّة الكاملة على موقع مؤسّسة هنداوي.
الفكرةُ من نظرية الألعاب تتلخَّصُ بسهولة جديدة في اسمها، فهدف هذه النظرية هو تفسير آلية عمل الألعاب، في الغالب تكونُ ألعاباً يُشارك بها شخصان فقط (لتبسيط أهداف كلّ لاعب ونتائج أفعاله)، وأحياناً تكون أعقد من ذلك. قد يبدو الأمرُ غريباً، لكن نظرية الألعاب قادرةٌ على تفسير سلوكيّات الناس عندما يلعبون أيّ لعبة جماعية عادية: سواء كانت الشطرنج، أو المونوبولي، أو أيّ واحدةٍ من ألعاب البطاقات، فهذه كُلّها تدخلُ في مجال دراسة نظرية الألعاب.
لكن هذه الألعاب ليست لها وظيفة إلا قضاء وقت الفراغ والاستمتاع، ولذا – بطبيعة الحال – لا يُوجد أشخاصٌ كثيرون مُهتمّون بصرفِ خبرتهم المهنية في دراستها وبحثها. ولذلك، فإنَّ استخدام هذه النظرية لا يكونُ عادةً في “الألعاب” فعلاً، وإنَّما في مسائل بالحياة الواقعية تسيرُ بطريقة مُشابهة لتلكَ الألعاب، ففي الأساس، أيّ مُنافسة يُشارك بها عدة أشخاصٍ يُمكن النظر إليها على أنَّها لُعبة بطريقة أو بأخرى.
جميع التطبيقات المُهمّة لنظرية الألعاب هي في مجال الاقتصاد، والسَّببُ في ذلك هو أن هذه النظرية قادرةٌ على تفسير رُدود أفعال الناس، عندما يتعاملون مع المال، بدقّة تكون مُذهلة أحياناً. فعلى سبيل المثال، عندما تُريد شركة عملاقة إجراء مزادٍ علنيّ على أسهمها، سوف تُوظّف خبيراً في نظريّة الألعاب ليُقدّم لها نصائح واستشاراتٍ عن كيفيّة إدارة ذلك المزاد، وتُساعد نصائح هؤلاء الخبراء أحياناً على جنيِ مليارات الدولارات في الصّفقة الواحدة.
كيف تعملُ النظرية؟
يعتقدُ خبراء الاقتصاد أنَّ مُحاولة تفسير أسباب ردود أفعال الناس في المواقف التي تدرسُها نظرية الألعاب قد يكونُ أمراً مُعقَّداً وشائكاً جداً، ولذا، فإن هذه النظرية لا تُقحم نفسها في الأسباب القائمة وراء كلّ قرارٍ يتَّخذه الناس في مثل هذه المواقف، بل هي تعملُ على وصف تلك القرارات وتحديد أرجحيَّتها فحسبْ، بناءً على التجارب والإحصاءات العمليّة.
ومع أنَّك قد تعتقدُ أن اختيارات الناس يجبُ أن تكون قائمةً على تفضيلاتهم وطريقة تفكيرهم الشخصيّة، إلا أنَّ رُدود أفعال الناس – في عددٍ كبير جداً من الألعاب – تكونُ مُتوقَّعة جداً ومُتفقاً عليها بين جميع الناس. ففي مُعظم الألعاب التي تدرسُها هذه النظرية تكونُ هناك منافسة بين مجموعة من الأشخاص، ويُحاول كلّ شخصٍ فيها زيادة مكاسبه على حساب خُصومه، وعندَ تكرار اللعبة عدداً مُعيَّناً من المرات، وعلى افتراض أن جميع اللاعبين عاقلِون، فإنَّهم عادةً ما يتوصَّلُون إلى نفس النوع من القرارات بالضَّبْط.
تعتمدُ معظم الفرضيّات الموضوعة في نظرية الألعاب على مُفارقاتٍ تخيّلية، يلعبُ فيها شخصان اسمُهما “أليس” و”بوب” الكثير من الألعاب البسيطة التي تُحاول وصفَ المواقف الواقعية التي تحدثُ في عالم الاقتصاد. فمثلاً، في واحدةٍ تُسمّى “مُفارقة السجنين” تُلقي الشرطة القبضَ على أليس وبوب لارتكابهما جريمة، والشرطة مُتأكّدة من أنهما الفاعلان، لكن لا يُوجد دليل، لذا تُطالب كلُّ واحد منهُما – على حدة – بالاعتراف بالجريمة وإدانة صديقه. لو خانت أليس بوب فسوفَ يُطلَق سراحها على الفور بينما يتلقّى هو كامل عُقوبته، لكن لو خانها هو أيضاً (في الوقتِ ذاته)، فسوفَ يتلقّى الاثنان عُقوبة كاملة، وأما لو التزم الاثنان الصَّمت، فسوف يتلقَّى الاثنان رُبْع فترة العقوبة فقط. فماذا سيختارُ أليس وبوب؟
الأفكارُ الأساسيّة
أحدُ أكبر المُساهمين الحديثين في نظريّة الألعاب الأمريكي جون ناش، وهو نفسُه عالم الرياضيات الشهير الذي صُوِّرت قصة حياته الحزينة في فلم Beautiful Mind الصّادر عام 2001. لاحظَ ناش أنَّه عندما يلتزمُ اللاعبون في ألعابٍ مُعيّنة باتخاذ نفسِ القرارات مراراً وتكراراً، فإنَّ خُصومهم سوف يلتزمُون أيضاً بإجاباتٍ ثابتة عليها، لأنَّها تكونُ أفضل خيارٍ مُمكنٍ لهُم رداً على خيار غريمهم. تُسمّى هذه الحالة توازن ناش، وهي حالةٌ سوفَ يصلُ إليها جميع اللاعبين، عاجلاً أو آجلاً، عندما يكتسبُون بعض الخبرة في أيّ لعبة.
فعلى سبيل المثال، في الحالة المذكُورة أعلاه، تعلم أليس أنَّ أفضل خيارٍ لها في حالة ما خانها بوب هو أن تخونُه بالمِثْل، فبتلك الطريقة سوفَ تنتقمُ منه لجعلها تتلقّى العُقوبة، ولكن إذ علمت أن بوب لم يخُنها، فإنَّ أفضلَ خيار لها هو أيضاً أن تخونُه، فذلك سوفَ يسمحُ بإطلاق سراحها على الفَوْر. هذا يعني أنَّ أفضل ردّ لأليس على جميع خيارات بوب هو الخيانة، وأفضلُ ردّ لبُوب على جميع خيارات أليس هو أيضاً الخيانة، وبالتالي فإنَّ حالة توازن ناش لـ”مُعضلة السجينين” هي الخيانة المُتبادَلة.
ليسَ بالضّرورة أن يكون هناك توازن ناش واحدٌ لكلّ لعبة في العالم، فبعضُ الألعاب تكون مُعقَّدة بحيث تتفاوتُ فيها اختيارات اللاعبين، لكن مُعضلة السّجينين هي واحدةٌ من الحالات الواضحة.
تُثبت تجارب المحاكاة هذه النَّتيجة، فقد حاولت بعضُ التجارب العلميّة وضعَ أشخاصٍ في مُعضلة السَّجينين وتسجيلَ استجاباتهم لعَرْض خيانة أصدقائهم. في البداية، كان الأشخاصُ الخاضعون للتجارب يختارُون التزام الصَّمت لـ50% من المرّات تقريباً، لكن، عندما تمَّ تكرارُ التجربة عليهم عِدّة مرات بحيثُ يكتسبون خبرة في التعامُل معها، أصبحُوا يختارون الخيانة في أكثر من 90% من التجارب.
الاختيار العشوائيّ
في نظريَّة الألعاب يُحاول اللاعبون العقلانيون دائماً الوُصول إلى الاختيارات التي تزيدُ مكاسبهم لأقصى حدّ مُمكن، لكن في بعضِ الحالات، يبدُو أنَّ الطريقة الوحيدة للحُصول على أكبر مكسبٍ مُمكن هي الاختيار بعشوائيَّة تامة، لأنَّ للعبة قواعدَ عشوائية، أو لأنَّ اللاعبَ يحتاجُ لتضليل خُصومه بحيث يُوهمهم بأنَّه يختارُ على أساس عشوائي.
إحدى النماذج النظريّة لهذه الألعاب لُعبة “مُطابقة العملات”، ففي هذه اللعبة لدى أليس وبوب عملتان معدنيَّتان، ويختارُ كلّ منهما أحد الجانبين: إما صُورة أو كتابة. لو كانت العُملتان مُتطابقتان، تفوز أليس. لو كانت العُملتان مُتغايرتين (واحدة كتابة، والأخرى صُورة) فسوفَ يفُوز بوب. فما الذي على أليس أن تختارهُ للفوز؟
قد تعتقدُ أن الإجابة هي أنَّ عليها الاختيارَ بطريقةٍ عشوائيّة، لكنَّ تلك ليست الإجابة الصحيحة تماماً. حسبَ نظريّة الألعاب، فالطريقةُ المثلى التي على أليس اللَّعبُ بها هي أن تستعملَ جميع خياراتها المُمكنة بنفس المقدار، وبالتالي، يجبُ أن تختار “صُورة” لـ50% من المرّات، و”كتابة” في الـ50% الأخرى، وبالتالي سوفَ تكسبُ نصف الجولات بالضَّبْط، وتخسرُ نصفها بالضَّبْط، وهذا هو أفضلُ مكسبٍ يُمكنها الوصول إليه ضمن الظروف المُتوافرة لها. وتُسمّى هذه الطريقة في اتّخاذ القرار الاستراتيجية المُختلطة (Mixed Strategy).
السَّعيُ للتوازُن
لكن، ماذا لو كان أليس وبوب يلعان لُعبةً أكثر تعقيداً، مثل “حجرة ورقة مقص”؟
وصفَ مُؤسّس علم نظرية الألعاب والعالم الحاصلُ على جائزة نوبل في الاقتصاد “جون فون نيومان” الطريقة التي تتغيَّرُ بها استراتيجيات بوب وأليس استجابةً لبعضِهما، وذلك في نظريّته المُسمّاة نظرية أدنى الأقصى (Minimax Theory). وبحسب هذه النظرية، يسعَى جميعُ اللاعبين المُتنافسين إلى تقليل خسائرهم باستمرارٍ بتغيير استراتيجيتهم، وفقاً لما يختارُهُ خُصومهم.
فلو كان بوب يختارُ مقص في 70% من جولاته، فمن المنطقيّ أن أليس سترغبُ أيضاً باختيار الحجر في نفس العدد من المرّات، وعندما تفعلُ ذلك، سيُلاحظ بوب أنه أصبح يخسرُ أكثر، ولذلك سيُغيّر استراتيجيته بحيثُ يختار الورقة أكثر، لأنه تغلبُ الحجر. تتنبَّاُ نظرية الألعاب بأن أليس وبوب، طالما أنَّهما لاعبان عاقلان، سوف يستمرَّان بتغيير خياراتهما حتى يصلا إلى نُقطة تجاذب، وهي مرحلة من التوازن، يتفقُ فيها اللاعبان على تثبيت استراتيجياتهما لأنَّهما وصلا إلى النّقطة التي يحصدان عندها أعلى مكسب وأقل خسارة مُمكنة بحُكم الظروف، وبالتالي لم تعُد هناك حاجة لاختلاق استراتيجية جديدة.
ولكلّ لُعبة “حوض تجاذب” خاصّ بها تستقرُّ فيه عند استراتيجيات مُحدّدة، ويُفترض في لعبة “حجرة ورقة مقص” أن يكون حوض التجاذب عند النقطة التي يختارُ فيها بوب وأليس الحجر لثُلْث الوقت، والمقص للثلث، والورقة للثلث.
الخداع والتَّضليل
لكنَّ الحالات التي سبقَ ذكرها هي حالات بسيطة، ليست لدى اللاعبين فيها أيُّ معلومات عن خُضومهم. وفي بعضِ الألعاب يُمكن أن يتَّبع اللاعبون الاستراتيجية المُختلطة (أي العشوائية) عن عمد، ويكونُ هدفهم من ذلك هو تضليل مُنافسيهم بحيث لا يُدركون السَّبب في اتخاذهم هذا القرار أو ذاك. وأوضحُ الأمثلة على هذا التضليل هي ألعاب المُراهنة، مثل البُوكر.
في لُعبة البوكر يحملُ كلّ لاعبٍ في يده مجموعةً من البطاقات،ولا يستطيعُ رؤية بطاقات اللاعبين الآخرين. على مدارِ اللعبة يستطيعُ اللاعبون المُراهنة بمبالغ مُعاينة، وعندما يضعُ أحد مبلغاً مُعيّناً للرهان، فإن جميع خصومه مجبَرُون على اتخاذ واحدٍ من خيارَيْن: إما أن يراهنوا بنفس المبلغ، أو ينسحبونَ من اللغبة. لا يستطيع اللاعب المُنسحب كسب أيّ نقود بعد خُروجه من اللعبة، مهما كانت بطاقاته جيّدة في الحقيقة. ولو بقيَ لاعبٌ واحد فقط لم يُعلن انسحابه، فإنه يحصلُ على النقود التي راهن بها جميعُ خصومه، حتى ولو كانت بطاقاته سيّئة جداً. أما لو أصرَّ أكثرُ من شخصٍ على البقاء إلى نهاية اللعبة فيتمُّ كشف البطاقات، ويفوزُ صاحب المجموعة الأفضل.
الآن، عندما تكونُ لديك مجموعة جيّدة من البطاقات فإنَّك تُريد لخصومك أن يُراهنوا بنقودٍ أكثر، لأنك تعلمُ أنك سوف تكسبُها كلها عندما تفُوز. لكن بعد خبرةٍ قصيرة في لغب البوكر، سوفَ يعلمُ الجميع – عندما تُراهن بمبلغٍ كبير – أنَّ لديك بطاقاتٍ جيّدة جداً، وبالتالي سيُعلنون انسحابهم على الفَوْر، قبل أن يُراهنوا بنُقودهم.
لهذا السَّببِ يعمدُ لاعبو البوكر الخُبراء إلى تضليل خصومهم بطُرُقٍ مُعقّدة.
لكي ينجحَ هذا التضليل، لا يُريد اللاعب الخبير خداع خُصومه ودفعهم للانسحاب عندما تكون أوراقه سيّئة، فذلك رهانٌ ضعيف، بل هو يُريد إغرائهم بالرهان بمبالغ كبيرة عندما تكونُ أوراقه جيّدة. وبالضّرورة، يعني ذلك أنَّه سوف يضطر للاستمرار بالرهان في بعض الأوقات، حتى لو كانت أوراقه سيئة، بل رُبّما تكونُ عليه المزايدة أيضاً، وبهذه الطريقة، سيُصبح من الصّعب على الآخرين تمييزُ متى يُراهن هذا اللاعب بسبب أوراقٍ قوية، ومتى يسعى لتضليلهم فحسب.
الأعرافُ الجماعية
تخلصُ نظرية الألعاب إلى أن البشر العقلانيين يميلُون دائماً للقرارات التي تصبُّ بمصلحتهم الخاصة آنياً، حتى ولو كانت، على الأمد الطويل، سوفَ تُضرّ بهم وبباقي مُجتمعهم، ومن مثل ذلك مُفارقة ملعب كرة القدم.
فعندما يُشاهد جمهورٌ من الناس مُباراة كرة قدمٍ من على مُدرّج، سوف تكون الرؤية صعبة عليهم قليلاً، وقد يُفكّر أحدهم بأن يقف، لأنَّ الوُقوف يعني أنه سوف يرى ما يحدثُ بوضوحٍ أكبر. ولكن، عندما يفعل ذلك سوف يضطر من حوله للوقوف أيضاً، لأنه يحجبُ عليهم المشهد، وبعد فترة، يُمكن أن ينتيه الأمرُ بجميع من في الملعب بالمٌشاهدة واقفين. وعندها سوف يكون الجميع قد تكبَّد خسارة، لأنهم فقدوا راحة الجُلوس، دون الحصول على أيّ مكسب.
واعتقدَ بعضُ الفلاسفة أن من العقلاني في هذه الحالة أن يتصرَّف الناس وفقاً لمصلحة المُجتمع، لكن على أرض الواقع، تُظهر التجارب أن الإنسان يميلُ للسلوك الأناني، وبالتالي يكونُ دائماً من الصَّعب الحفاظُ على الأعراف العامة التي تُساعد المجتمع. وبالطبع فإنَّ هذا ليس حُكماً مطلقاً، لكنه النتيجة الراجحة لمُعظم الحالات.
الإنصاف
نظرية الألعاب تُقدّم الإنسان على أنه مخلوقٌ أناني جداً، فنظرياً، قد نفترضُ أن جميع اللاعبين في هذه النظرية يميلُون للاختيارات التي تُعطيهم أعلى المكاسب، ولا يُظهرون أيّ رغبة ببذل الخير، وبالتالي فإنَّ التعاونَ يُصبح نتيجة غير مُمكنة في تفاعلات الناس مع بعضهم، وذلك بالتأكيد غيرُ صحيح.
وقد تعتقدُ أننا بصدد الحديث عن المشاعر والرّغبة بالإيثار والعطاء التي تُغيّر سلوك الناس في المُفارقات التي سبق وأن ذكرناها، لكنَّ ذلك ليس تماماً مَوضوعاً لنظريّة الألعاب. تُوجد عوامل إضافية في عالم الواقع تجعُلُه مختلفاً – من ناحية فعليّة – عن نماذج الألعاب النظرية أعلاه، ومن أهمِّ هذه العوامل التكراريّة.
عندما يخوضُ الناس نماذج من نظرية الألعاب في الحياة، مثل تعامُلهم مع أحد البائعين أو إجرائهم لصفقةٍ تجارية، فهُم مضطرُّون لأن يأخذوا بالحُسبان أن هذه اللعبة لن تحدث مرّة واحدة فحسب، بل ستتكرّر عدداً كبيراً جداً من المرات. فالتاجران اللّذان يُبرمَان صفقة لا يخدعان بعضهُما في العادة، وليس ذلك بالضرورة لأن لديهما أخلاقاً حسنة جداً، لكن لأنَّهما يحتاجان لبناء علاقة ثقةٍ طويلة الأمد بينهُما. فالتاجر الذي يغشّ يكتسب سُمعة سيئة، والسمعة السيئة تعني أن التجار الآخرين لن يرغبوا بالتعامل معه، وبعد بضع تكراراتٍ لن يجدَ شخصاً في المدينة يبيعُه بضاعته. وبما أنَّ مُعظم العلاقات في الواقع تكونُ ذات نهاية مفتوحة، أي لا يُوجد حدٌّ مُعيّن لانتهائها، فإنَّ البشرَ يميلُون للالتزام بالقواعد التي تمنحُهم سمعة جيّدة.
ومن العوامل الأساسية التي تترتَّبُ على التكرار مبدأ المُعاملة بالمثل، ومن ذلك الرّغبة بالانتقام والعقاب، وهي من العواقب تجعل الناس يميلُون – في الكثير من الأحيان – للتعامُل بإنصاف، حتى لو لم يرغبوا تماماً بذلك. ويُمكن تلخيصُ المعاملة بالمثل بأنَّ “العين بالعين، والسن بالسن”، فكلُّ مرة يتخذه فيها لاعبٌ قراراً أنانياً، سوفَ يُعاقَب بالمثل. وتُثبت التجارب أنَّ الأشخاص يُغيّرون اختياراتهم دائماً استجابة لما يفعله خصومهم، لكنَّهم يُعطونهم مجالاً للتراجع، فلو تخلّى أحدُ اللاعبين عن أنانيته، سُرعَان ما سوف يتخلّى عنها الآخرُ أيضاً.
والأشخاصُ في الحياة الواقعية لا يميلون لقبول الصفقات التي تُعطيهم مكاسب غير عادلة، حتى لو كانوا سوف يتكبَّدُون خسارةً أكبر بسبب رفضها، فالكبرياء هي واحدةٌ من العوامل الأساسية التي تُؤثر في سلوك البشر، وتختبرُ ذلك عِدّة تجارب اختبرت إحدى تجارب نظريّة الألعاب ظاهرة الكبرياء في ما يُسمّى “لعبة الإنذار النهائي“.
في هذه اللعبة يحصلُ أليس وبوب على مبلغٍ من المال، لكن يُوجد شرط: يجب على أليس أن تختار كيفيّة تقسيم المال، بأيّ طريقة تشاؤها، ولدى بوب خياران، إما رفضُ عرضها (وعندها لن يحصل هو ولا أليس على أيّ قرش)، أو يقبله من دون نقاش. وفي حال عدم وُجود الكبرياء فسيكونُ من العقلاني لبوب أن يقبل أي عرضٍ يحصلُ عليه، لأن مكسبه سوف يكون أكبرُ دائماً، فالرَّفضُ يعني عدم حصوله على أي شيء. وأما القبول فسيكون مكسباً، حتى ولو بمقدار قرشٍ واحد.
لكن التجارب المعمليَّة أظهرت أن الناس لا يقبلُون التقسيمات غير العادلة في الغالب، حتى ولو كانت بفارقٍ بسيط، مثل 30 لـ70% أو من قبيل ذلك. وفي الحقيقة، فإنَّ مُعظم الناس الخاضعين للتجربة كانوا يُقسّمون المال بالتساوي تماماً، رغم أنهم يستطيعون – نظرياً – إبرام اتفاق غير عادل.
المزادات:
إحدى أكبر التطبيقات التجاريّة لنظرية الألعاب هي المزادات، وليس المقصودُ هنا المزايدة في سوقٍ تجاري على تحفة سعرُها مائة دولار، بل المزادات العملاقة التي تتنافسُ فيها الشركات على خدماتٍ تصلُ قيمتها إلى مئات ملايين الدولارات، ففي مثل هذه الحالة، قد يكونُ من المجدي جداً توظيفُ خبير في نظرية الألعاب للإشراف على سير الأمور.
توجد عدة أنواع مشهورة عالمياً من المزادات، من أهمّها المزادات الإنكليزية، التي تظهر في الصورة أعلاه بحدث تستضيفه مؤسسة سوثبيز البريطانية الشهيرة جداً. تبدأ هذه المزادات من سعرٍ قليل، ويستمر الحاضرون برفع مزايداتهم حتى لا يرغب أي شخصٍ برفع السعر أكثر، وعندها يعلن عن إقفال المزاد وفوز صاحب آخر سعر، ويُخصَّص هذا النوع لبيع التحف الفنية والمقتنيات الثمينة. وأما المزادات الهولندية فهي تسير بطريقة مُعاكسة: إذ تبدأ المزايدة من أكبر سعر ومن ثم يتم تخفيضه تدريجياً، ويفُوز أول من يعرض رغبته بالشراء عند آخر سعر تمَّ التوقف فيه. وتتسم هذه المزادات بالمُخاطرة في التأخر بالشراء، وتستخدم لبيع سلعٍ تافهة مثل الحيوانات الأليفة والأزهار.
وأما النوع الذي تميلُ الحكومات لاستخدامه في بيع سلع مهمة للشركات العملاقة، فهو مزاد المظاريف أو مزاد فيكري (نسبة إلى مُخترعه). في هذا المزاد تعرض كلّ شركة – بسريّة تامة – عن السعر الذي ترغبُ بتقديمه للحكومة السلعة المعروضة، التي قد تكون أرضاً مهمة أو خطّ اتصالات أو شيئاً مث لذلك، وتفوزُ الشركة التي عرضت أعلى مبلغ. لكن، الأمر الاستثنائي في هذا النوع من المزادات أن الشركة الفائزة لن تدفع لقاء الخدمة السعر الذي عرضته، بل ثاني أعلى سعرٍ عرضته إحدى الشركات الأخرى. قد تبدو هذه القاعدة غريبة جداً وغير منطقية، لكن، على أرض الواقع، هي تساعد على زيادة أرباح المزاد بتشجيع الشركات على عرض أسعار أكبر، متأمّلة أنها لن تضطرَّ لدفع كامل المبلغ الذي عرضته.
هل أنصحك بقراءة هذا الكتاب؟
كان هذا الكتاب مليئاً بالأفكار المُمتعة والنظريات المُشوقة، لكنه – أيضاً – كان واحداً من أصعب الكتب التي قرأتها في حياتي. يفترض أن الترجمة جيّدة، لكنها حرفية كثيراً، وصياغة وتراكيب الجمل في الكتاب معقدة جداً، بحيث أن محاولة فهمه تصبح مرهقة جدياً في بعض الأحيان. عملياً، يمكنني القول أني أعدت قراءة كل صفحة من الكتاب مرَّتين أو ثلاثة قبل أن أنهيه، لأن فهمه كان عسيراً جداً. لهذا السبب، لن أنصحك بقراءة الكتاب إلا لو كنت مهتماً فعلاً بالخوض في تفاصيل الموضوع، وعدا عن ذلك، فأعتقدُ أن من الأفضل لك الاكتفاء بقراءة مُلخّصات ومقالات مختصرة عنه، مثل هذه التدوينة!