
طلوع الشمس من المغرب مثبتٌ علمياً… أكذوبة رائجة يتداولها بعض رواد المنتديات على الإنترنت.
عندما تسمع أولاداً بالمرحلة الابتدائية يتداولون حديثاً من هذا النوع، فلا بُدَّ عندها أن تدرك حجم المأساة التي تمرُّ بها التجارة باسم العلم في العالم العربي، ولا بد – في حالتي – أن تعود إلى المنزل غاضباً تنتظر بفارغ الصبر الوصول إلى حاسوبك لكتابة تدوينة تصف هذه المأساة. المشكلة لا تمكن بالصغار فقط، بل لقد رأيت الكثير من الكبار والطاعنين في السنّ يتناقلون قصصاً أتفه من هذه بمرَّات على أنها “حقائق علمية” و”إعجاز علميّ”. من تجربتي الشخصية في مجالات معرفتي واختصاصي، يمكنني القول أن نصف ما يذكر في برامج وكتب الإعجاز العلمي على الأقل هو هراء محضٌ ألصق زوراً باسم العلم وادُّعي أنه من نتاج دراسات العلماء. وبالعودة إلى قصة الفتى الصغير تلك، التي لا أدري من أين سمعها بالتحديد رغم أن نوعها رائجٌ في أيامنا هذه، فإنَّ الجزء الوحيد منها الذي يمكن وصفه بأنه “معتقد علمياً” وليس “مثبتاً” بحقيقة الأمر هو الجزء الأخير المتعلُّق بانسحاق الكون، وهو جزءٌ من نظرية الانسحاق العظيم التي اقترحها بعض الفيزيائيين خلال القرن العشرين.
مع أنَّ العديد من هذه القصص الخيالية تأتي من مزوّرين عابثين على الإنترنت، إلا أنَّ العديد منه أيضاً يصدر عن شيوخ وأعلام معتبرين في هذا المجال، وسواء أكان السبب وراء وضع هذه القصص تزويراً متعمَّداً أم تقصيراً في التدقيق بالمادة العلمية، فإنه جريمة كبيرة في الحالتين، تؤدي أولاً إلى خداع عامَّة الناس وثانياً إلى إفقادهم ثقتهم.
مثال معروف:

الارتفاع والانخفاض المستمرّ في لمعان النجوم النابضة، الذي فسَّره عالم إعجاز بعد رصده بجهاز راديو على أنَّه النجم الطارق.
الآن… ما الذي أصبو إليه؟ من الواضح أن ما أريد قوله هو أنَّ زغلول النجار وقع في كلامه هذا بخطأٍ علمي فادح، وسأقول لك أين هو. إن الضوء بطبيعته هو أمواج كهرومغناطيسية تنشأ من مجالات كهربائية ومغناطيسية، تختلف أنواع هذه الأمواج بحسب طولها، فالعين البشرية لا تستطيع أن ترى إلا طيفاً ضيّقاً من الأطوال الموجية الكهرومغناطيسية.. هو ما نسمّيه “الطيف المرئي”، وهو ذاته طيف قوس قزح ذي الألوان السبعة الذي نراه عند انكسار أمواج الضوء. يُصنِّف العلماء الأمواج الكهرومغناطيسية إلى سبعة أنواع بحسب أطوالها، هي من الأقصر إلى الأطول: أشعة غاما، والأشعة السينية/أشعة إكس، والأشعة فوق البنفسجية، والضوء المرئي، والأشعة تحت الحمراء، وأشعة المايكرويف، والأمواج الراديوية.
وهنا تكمن نقطتنا.. فالأمواج الراديوية ليست سوى شكلٍ من أشكال الضوء، وإن استعمالها ببثّ إشارات المذياع وآلاتٍ أخرى ما هو إلا تشفير لأشعة الضوء لتحمل كلٌّ منها معنى متفقاً عليه بين محطات الإذاعة مسبقاً، لكنها في جوهرها ليست سوى شكل من الضوء. ما التقطه زغلول النجار في جهاز الراديو بالصحراء، هو أشعة الضوء التي كان يبثُّها النجم النابض، وإنَّ سبب ضجيج الطرق الذي سمعه هو تصاعد قوة الأمواج الراديوية وانخفضاها المفاجئ أثناء التفات النجم حول ذاته، ممَّا فسره المذياع على أنه ارتفاع قويٌّ في الصوت. ما يصدره هذا النجم في واقع الأمر، لا يختلف عن مصباح كبير الحجم ينطفأ وينشعل باستمرار، وليس فيه شيءٌ من “الطرق”. والخطأ الفادح الأكبر من هذا الذي وقع فيه زغلول النجار، هو أنَّه ادعى أنه التقط صوتاً قادماً من نجم يبعد عنَّا ملايين مليارات الكيلومترات، بينما يعرف الأطفال الصّغار في دول أخرى أنَّ الأمواج الصوتية لا يمكنها الانتقال عبر الفضاء.
***
لا بُدَّ وأن أضيف إلى ما سلف… أنَّني لم أمرَّ مروراً سريعاً بهذه الأمثلة القليلة فقط ثم أتيت لأجمعها هنا بنية ما، بل إنني كنت على اطّلاع جيد لفترة من الزمن بالكثير من برامج ومقالات الإعجاز العلمي، ولا أدَّعي أنني على معرفةٍ ودرايةٍ بكل المواضيع التي دارت حولها هذه المقالات، لكن يمكنني القول أنه ممَّا كان ضمن مجالات اطلاعي… فإنه كان في جلِّه اختلاقاً وتزويراً لا أصل له من الصحة. وإن معظم ما ستجده على الإنترنت العربي منسوباً للعلم – حتى ولو صدر عن شخصيَّات معروفة ومقدَّرة في المجتمع دون سببٍ فعلي لذلك – هو محض أكاذيب.
من المؤسف والمستفزّ أن الأمر لا ينتهي فحسب عند من يدَّعى أنه “عالم” يتحدث عن الإعجاز العلمي ثم يأخذ بقول هراء سيرميه في وجهه مباشرة أي عالم حقيقي، بل إن المشكلة تمتدُّ إلى العقول التي تستقبل حديث هؤلاء “العلماء” باستسلام تام ودون أيّ تفكير. لقد ثارت الكثير من الضجَّة قبل عدد من السنوات حول موضوع كذبة جزيئات النباتات التي “تصدر ذبذبات” فُسِّرت على أنها التسبيح بحمد الله المذكور في سورة الإسراء، ثم تبيَّن أنها كانت خدعة مقصودة دبَّرها بعض العلمانيّين للسخرية من سهولة تصديق المسلمين وتناقلهم لكلّ أكذوبة تافهة يسمعونها، ومن الواضح أنهم نجحوا في هدفهم كل نجاح.. حيث أن اسم العالم المختلق الذي حقَّق ذلك الاكتشاف – “وليام براون” – يعطي الآن أكثر من نصف مليون نتيجة بحثٍ على محرك غوغل. وإن هذا لهو دليل كبير كافٍ على المأساة التي تواجهها تجارة العلم عندنا حالياً.

صورة مزوَّرة للجهاز الذي ادعي أنه استعمل في اكتشاف ذبذبات تصدرها نباتات هي “التسبيح بحمد الله” المذكور في القرآن.
الدين هو الدين، والعلم هو العلم، ولا أعتقد أن محاولة خلطهما لأي سببٍ كان فكرة جيّدة بالمرَّة. أنا لا أؤمن فعلياً بجوهر فكرة الإعجاز العلمي، لأن فكرة الإسلام قائمة على أن تؤمن بربٍ لا تراه، ولا يفترض أن تكون بحاجة لأدلة أخرى لتؤمن به، وأما من كان بحاجة لمثل هذه الأشياء ليؤمن فإنه لن يؤمن معها أو بدونها. القرآن هو نص رباني، مهما بذل من الجهد في تفسيره فإنَّه لا علم لنا بالقصد الدقيق وراء كل آية من آياته، لذلك فإنه ما من معنى لمحاولة تطبيق هذه الآيات على أشياء من عالمنا بعشوائية. عندما يذكر القرآن النجم الطارق، فعلينا أن نعي ببساطة أننا لا نعرف ما هو المقصود بالنجم الطارق، وعلى الأرجح لن نعرف قط، وحتى لو أصدرنا بعض التخمينات فإن التحقق منها سيكون في الغالب مستحيلا، ولا يمكن وصفها بالإعجاز. إننا هنا ندِّعي معرفة شيء نحنا بالواقع لا نعرفه… ولعلَّنا بهذا نرتكب ذنباً أعظم ممَّا قد نستفيده من محاولة العمل في مثل هذا المجال الذي يعطي المزوّرين مجالاً خصباً لنشر الترهات.