منذ كنت صغيراً كان لديَّ اهتمام وشغف كبيران باستكشاف الطبيعة، كنت دائماً متشوقاً للعثور على كائنات حية فريدة وغريبة في كل مكانٍ “طبيعي” أذهب إليه. مع الأسف، لم تتح لي إلا فرصٌ قليلة لذلك، فحيث إنني أعيش بمدينة صحراوية المناخ خاليةٍ من الخضرة لا مكان للتنزّه فيها، كنت لا أحصل على هذه الفرصة إلا في الصَّيف، وغالباً ما كانت مخيّبة للأمال إلى حدّ ما، فلم أكن لأعثر على أكثر من بعض الحشرات والعناكب الصغيرة، وهي من أقل الكائنات التي تثير اهتمامي.
مع أنني كنت أمارس هذا العمل آنذاك كهواية فقط، إلا أنني أدركت في ما بعد مدى أهميّته. فهواة الطبيعة يساعدون العلماء الأحيائيّين كثيراً في تسجيل الأنواع الجديدة وإحصاء الأنواع الموجودة ومتابعة حالتها والتنبيه إلى تدهور بيئتها الطبيعية، ويمكنهم المساعدة في حمايتها وإنقاذها أيضاً. ومع أنه يندر أن يسجل هاوٍ نوعاً جديداً من الحيوانات على المستوى العالمي، إلا إن الهواة كثيراً جداً ما يسجلون أماكن جديدة يعيش فيها هذا النوع أو ذاك لم تكن معروفة للعلماء من قبل.
بالنسبة لي، فإنَّ هذه الهواية فضلاً عن جانبها العلميّ الهام، مثيرة جداً. في صغري عندما كنت أتابع مسلسل “بوكيمون” التلفزيوني أو ألعب الألعاب المأخوذة عنه، كانت تنتابني الحماسة الشديدة للمغامرة والاستكشاف بحثاً عن الأنواع المميزة والنادرة من “البوكيمونات” التي كان يصعب العثور عليها كثيراً، وكنت أحسّ بفرحةٍ عظيمة عندما أتمكن من العثور على أحدها. والآن أنا أنظر إلى الحيوانات البرية بنفس الطريقة، فالبحث عن الحيوانات النادرة أمر ممتعٌ جداً ومملوء بالتحدي، وما يجعل الأمر أكثر إثارةً أنك لا تعلم دوماً ماذا ستجد، فقد تجد ما تبحث عنه، أو تجد أشياءً أخرى عديدة أقل أو أكثر روعة. كما إن التجوال في البيئة الطبيعية واستكشافها بحدّ ذاته، هو أمر ممتع جداً. ومن الملفت للنظر ومثل الحال في مسلسلات الأطفال، أنه غالباً ما تكون الحيوانات ذات الألوان الباهتة غير الجذَّابة هي الأكثر انتشاراً وشيوعاً في البيئة، فيما كلُّما زاد زهو وفقاعة ألوان الحيوان أصبح أكثر ندرة والعثور عليه أكثر صعوبة!
ما يدفعني إلى كتابة هذه الخاطرة الآن حول هذه الهواية، هو أنني قد حصلت البارحة على فرصة لم أحصل على مثلها منذ عدة سنوات لاستكشاف غابة، وكان ذلك تحديداً في محمية دبّين الطبيعية شمال الأردن. قبل الذهاب، حرصتُ على تفحُّص قائمة الحيوانات المثيرة المحتملة التي قد أعثر عليها، كانت هناك أشياء كثيرة مشوقة، مثل الضفادع والسلاحف والحرابي والسناجب ومختلف أنواع السحالي والثعابين. وكان أكثر ما أثار وجوده دهشتي من تلك القائمة هو السلاحف، إلى حد أنني فكرت باصطحاب أحد من كان معي (وهم من أقربائي وأصدقائي الذين يضعون علم الأحياء والبيئة في أسفل قائمة اهتماماتهم) وأقول له “هيا نبحث عن السلاحف”!
بعد وصولنا بقليل تركت الجميع وذهبت وحدي لكي “أستكشف” المكان. كانت هناك مروج عشبية ومنحدرات صخرية وحقول أزهار، كان المكان متنوعاً بشكلٍ كبير. لكن بما أن الضفادع (المتواجدة حول نبعٍ ماء أسفل الغابة) في المنطقة كان نشاطها ليلياً، وبما أن السناجب وجميع الثدييات الصغيرة كانت ماهرة في الاختباء وسريعة الحركة جداً عند الاقتراب منها بحيث يكون الإمساك بها مستحيلاً، فقد قرَّرت تركيز اهتمامي على الزواحف.
أخذت أسير بين المروج العشبية والأشجار أفتّش، في البداية كنت أريد السحالي لأنها غالباً الأكثر انتشاراً والأسهل للعثور عليها، إلا إنني فيما بعد أصبحت أبحث عن أيّ شيء. كنت من وقتٍ لآخر ألاحظ أشياءً كبيرة تتحرَّك فوق العشب، فقد كانت هناك الكثير من العناكب الكبيرة نسبياً، بلغ طول الواحد منها حوالي السنتيمترين وكانت ذات أرجلٍ نحيلة متوسطة الطول ولون أسود مع خطين أبيضين ملحوظين يخترقان ظهورها. بدأت أثناء تجوّلي برفع الحصى والحجارة ونبش التربة تحتها، فعثرت أكثر من مرة على ديدان أم أربعة وأربعين صغيرة، كانت تتكور لتحمي نفسها حال ما أرفع الحجر، ويبدو أنها شائعة في المنطقة. كما كانت هناك الكثير من الخنافس والحشرات شديدة الصّغر التي يصعب تحديد نوعها.
كانت قد مضت عليَّ نحو ساعة وأنا أبحث، عندما استدرت لأنتقل من أحد المروج إلى المرج التالي متابعاً بحثي، فلفتت نظري تلك الصدفة الذهبية الكبيرة التي كانت ملقاةً على الأرض في وسط المرج. أحسست للحظة بذهولٍ غريب، كأنَّ تلك الصدفة ألقيت إليَّ من السماء هدية لي! ثم أمسكتها وأنا لا أزل غير مصدق، فقد كانت تبدو تقريباً كأنها صدفة بلاستيكية، وظللت هكذا حتى رأيت عيناً سوداء صغيرة تبرز من الداخل لتنظر إلي، كانت سلحفاة فعلاً!
أكثر ما أدهشني فيها كان حجمها، فمع أنني قرأت عن وجود سلاحف بالغابة، توقّعتها أن تكون صغيرةً جداً. إلا إن هذه السلحفاة كانت كبيرة (بطول نحو 20 سنتيمتراً من الرأس إلى الذيل)، والأدهى من ذلك أنها ثقيلة للغاية. كانت صدفتها جميلةً جداً وملساء للغاية، ولونها ذهبي متميّز، أما جلدها فكان مملوءاً بالنتوءات والحراشف، وكانت لديها مخالب سوداء طويلة في نهاية أرجلها. سجَّلت موقع الاكتشاف على الخريطة وأخذت قياسات الطول والعرض للصدفة والجسم كل على حدة، ثم أريتها للآخرين، وبعد ذلك أعدُّتها إلى حيث وجدتها. حالما تركتها مشت إلى كومةٍ من الأغصان الجافَّة واختبأت فيها بشكلٍ مذهل (فقد وجدتها في مكانٍ مكشوف بالبداية)، بحيث أصبح من شبه المستحيل تمييزها إن لم تكن تعرف مسبقاً مكان وجودها. بعد ذلك انطلقت لعدة ساعات أخرى أمشّط المنطقة، إلا إنني لم أوفق بالعثور على شيءٍ آخر.
مع أن هذا الاكتشاف كان بسيطاً، إلا إنه أعطاني دفعة معنوية كبيرة، فقد كنت منذ زمنٍ طويل متشوقاً لبدء البحث في البيئات الطبيعية عنب كائنات برية متميزة، وكانت هذه أول مرة أحصل فيها على هذه الفرصة وأوفق بالعثور على شيءٍ ما. أدعو الجميع إلى تجربة هذا الأمر فهو ممتعٌ جداً، ومن يدري، ربَّما يقع بين أيدينا نوع جديد أو منقرض من الحيوانات ذات يوم!