قبل بضعة أيام، نشر أحد أصدقائي على صفحته بالفيسبوك خريطةً تظهر أكبر 40 دولة في العالم بعدد الأبحاث العلمية المنشورة في سنة 2011. وسأخصّص أول تدوينة لي هنا للحديث عن هذه الخريطة التي أثارت اهتمامي للغاية، لأن موضوعها هو موضوع مهمٌّ وأساسيٌّ جداً وقلّما يتم الحديث عنه، فمع أن الكثيرين في العالم العربي ربّما لا زالوا لا يقدّرون كثيراً أهمية الأبحاث العلمية، فيمكن القول بأنّ هذه الخريطة هي – بدون مبالغة – خريطة توزيع القوى والنفوذ في العالم اليوم.
ترى، ما هو البحث العلمي؟ البحث العلمي – حسب تعريف ويكيبيديا العربيّة – هو: “عبارةٌ عن مجموعةٍ من التقنيات والطرق المصممة لفحص الظواهر والمعارف المكتشفة أو المراقبة حديثاً، أو لتصحيح وتكميل معلومات أو نظريات قديمة. تستند هذه الطرق أساساً على تجميع تأكيدات رصدية وتجريبي ومقيس (قابلة للقياس) تخضع لمباديء الاستنتاج“. جميلٌ جداً! لكن، كيف يبدأ وكيف يعمل البحث العلمي؟ مشكلة البحث العلمي، التي تجعل الكثيرين ينتقصون من أهميّته ويتذمَّرون من الأموال الطائلة التي تُصرَف عليه، والتي يعتقدون أن من الأفضل استخدامها في تحسين الأحوال الاقتصادية للبلد، هي أنه عملية بطيئة وتراكمية كثيراً، وعلى الأغلب يستغرق بروز أهميَّتها وقطاف ثمارها وقتاً ليس بالقليل.
ليست وظيفة كل ورقة بحثية جديدة تنشر أن تكتشف أمريكا، بل إن العملية البحثية تسير بتدرّجٍ وبطءٍ شديدين، فعادةً، لا يختلف كثيراً موضوع البحث عن: “التأثيرات الجغرافية والمناخية والبيئية لنموّ الطحالب الخضراء المصفرَّة في منطقة البحر الميت على عمق 223 متراً تحت سطح الماء”! حسناً، فلنكن جادّين قليلاً، هذا عنوان حقيقيٌّ لورقة منشورة على موقع بحثي عريق (وهي حقيقةً، كانت النتيجة الأولى التي عثرتُ عليها عند البحث عن أحدث منشورات مجال العلوم البيئية في الموقع): “Intergrating biodervsity conservation into land consolidation in hilly areas – A case study in southwest China”، أي: “التوفيق بين صون التنوع الأحيائي وإعادة تأهيل الأراضي بالمناطق التلّيَّة – دراسة تجريبية في جنوب غرب الصين”.
قد لا تبدو مثل هذه الدراسات مهمّة أو مؤثرة للوهلة الأولى، لكن، إن شغَّلت آلاف العلماء في إعداد أمثالها لمدة خمس سنوات، ثم عدتَ إليهم لترى ماذا أنجزوا، ستتفاجأ بأنَّك صنعت فرقاً نوعياً في مستوى تطور العلوم البيئية عمَّا كانت عليه الحال قبل بدء عملية البحث. بالمثل، فإن العلوم التكنولوجية والفيزيائية والكيميائية، بل وحتى العسكرية والسياسية، لا تتقدَّم إلا بهذه الطريقة. من نُسمِّيهم “العلماء” ليسوا كلهم نسخاً آينشتاينية أو أديسونية، بل بالحقيقة هم يعملون عملاً رويتينياً ومملاً للغاية، وقليلاً جداً ما يبرز نجم أحد العلماء في مجالٍ ما، بل أغلبهم يقضي حياته في إعداد بحوثٍ ودراساتٍ شبيهةٍ بما أوردتُه للتوّ، هذا هو البحث العلمي، وهذه هي الطريقة التي تتقدم بها العلوم والصناعات والتي تتطور فيها الدول.
القائم على البحث العلمي أساساً ليس الأفراد المستقلّين العاديين، فالواقع ليس كالمسلسلات التلفزيونية والروايات الخيالية، عندما نرى العالِم ينعزل في قبو بيته ليجري التجارب والاختبارات بلا كللٍ أو ملل. بل إنّ العلماء ليسوا سوى موظَّفين، يعملون ويتقاضون الرواتب، مثلهم مثل غيرهم، لكنهم لا يعملون عند شركات تجارية، إنَّما يكون عملهم في المؤسَّسات الأكاديمية المسؤولة عن إنتاج البحوث العلمية، وهي المعاهد والجامعات البحثية. وإن أخذنا الولايات المتحدة مثالاً، فهي تضمُّ لوحدها 4,500 معهد للتعليم العالي تضمُّ 20 مليون طالب، منها أكثر من 300 جامعة ومعهد مختصّ بالبحث العلمي بنشاطٍ عالٍ جداً.
إذا ألقينا نظرةً على الخريطة أعلاه، سنجد دائرة عملاقة واحدةً، تبتلع كل الدوائر الأخرى، ولا ينافسها على منصبها أحد، هذه الدائرة هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي يمكننا القول عنها أنها الحاكم الفعلي للعالم الحديث. تليها دائرةٌ ضخمةٌ أخرى، تبلغ من الحجم نصف أمريكا تقريباً، وهي الصين، الحاكم الصناعي للعالم الحديث. وأيٌّ من هاتين الدولتين العملاقتين، لم تكن لتصل شيئاً مما وصلته الآن، لولا إدراكهما لأهمية وأساسية قطاع البحث العلمي وعدم توانيهما عن صرف الأموال الطائلة فيه، وليس حرصهما على تربُّع عرش العالم في هذا المجال إلا دليلاً إضافياً على أهميته الهائلة.
وطالما تتَّبعنا خطّ القوى البحثية في العالم، وجدنا أننا نقف أمام خريطة توزيع القوى في هذا العالم، سواء سياسياً أم اقتصادياً أم صناعياً أم عسكرياً، فهذه كلّها ليست أكثر من أمورٍ ثانوية تقف على دعامة البحث العلمي. وإن قفزنا من فوق إحصاءات سنة 2011، لننظر إلى كامل النتاج البحثيّ العالمي من سنة 1996 وحتى اليوم، سنجد أمامنا الترتيب الحالي الدقيق للقوى والنفوذ: الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى بأكثر من 6 ملايين بحث، تليها الصّين بأكثر من مليونين، فبريطانيا بمليون وثلاثة أرباع المليون، ثم اليابان فألمانيا بمليون ونصف لكل منهما، ففرنسا فكندا فإيطاليا فإسبانيا فالهند، وهلمّ جراً.
والآن، ما موقع العالم العربي وجيرانه من هذه الخارطة؟ حالياً، تتربَّع تركيا على عرش منطقة الشرق الأوسط بربع مليون ورقة بحثية، لتحتلّ المرتبة العشرين بين دول العالم الأجمع، ممَّا يعكس نموَّها الاقتصادي والعسكري والسياسي الهائل في السنوات الأخيرة. تليها إسرائيل في المرتبة الثانية والعشرين، ثم إيران بالمرتبة السابعة والعشرين، ويمكن القول عن هذه الدول الثلاث أنها “القوى العظمى” عملياً في المنطقة. عربياً، تحتلّ مصر المرتبة الأولى بـ75 ألف ورقة بحثية، ويضعها ذلك في المرتبة الحادية والأربعين عالمياً، تليها السعودية في المرتبة الثامنة والأربعين، ثم تونس والمغرب والجزائر والأردن والإمارات والكويت ولبنان وعمان والعراق وقطر في مراتب متفرّقة بين الخمسين والمئة، وما تبقّى يحتلّ مراتب من المائة وحتى المائتين وتسعة، التي كانت من نصيب جزر القمر بـ50 ورقة منشورة على مدى الأعوام الخمسة عشر المنصرمة. ووراءها بمسافة ليست بالبعيدة كثيراً، تحتلّ جزيرة توكلو المرتبة الأخيرة رقم 238 بورقة بحثية واحدة منشورة فيها منذ سنة 1996!
بالإمكان الاطلاع عبر الرابط أدناه على الإحصاءات كاملة، وتعيينها على مناطق معينة (كالشرق الأوسط، أو غرب أوروبا) أو سنوات محددة، أو حتى مجالات وموضوعات بحثية دون غيرها، وأنصح بالتمعّن فيها جيداً، فلها من الدلالات أكثر من أي إحصائيات اقتصادية أو سياسية أخرى:
http://www.scimagojr.com/countryrank.php?area=0&category=0®ion=all&year=all&order=it&min=0&min_type=it
أخيراً، يظلّ السؤال قائماً، متى تلتفت الدول والشعوب العربية – على حد سواء – إلى أهمية وأساسية البحث العلمي؟ ومتى تبدأ المعاهد والجامعات البحثية بالعمل الجادّ في مختلف أنحاء الوطن العربي؟ إلا أنه ربّما يكون من واجبنا كأفرادٍ بداية، أن نلفت انتباه العامة إلى كم هو هذا الأمر مهم، قبل أن نبدأ بمطالبة حكوماتنا بالالتفات إليه.